كل عام وأنتم بخير، اليوم هو الجمعة الأول من شهر أبريل، يوم "تجريس" اليتيم وفضحه وإهانته وإنزال أقصى العقوبات النفسية عليه والإساءة له ولوالديه أو أحدهما رحمهما الله، حيث تبادر الجمعيات الأهلية وهواة المنظرة على "خلق الله" بانتهاز مثل هذه المناسبات للظهور في زي أهل الخير والرحمة، ولمَ لا؟ فكل الأضواء والكاميرات والميكروفونات سوف تركز على الحدائق والمتنزهات ودور "الأيتام" أو الرعاية، ولست أدري من العبقري الذي أطلق عليها هذه الاسم إلا لتذكير اليتيم دائمًا بتلك الجريمة والعاهة المستديمة التي ستظل تلاحقه طيلة حياته؛ وهي اليتم.
وما أحلى التقاط الصور "السيلفي" بين هذه الكائنات المبتلاة بتلك العاهة، ويا حبذا لو كانت الصورة وفي يدك حزمة برسيم أثناء إطعام أحد هذه الكائنات الغريبة في "حنكه"، والحنك -أعزكم الله- كلمة عربية فصيحة لم تعد تستخدم كثيرًا إلا في الأرياف، وهي تعني مكان وضع الطعام من أعلى بالطبع، وهو الفم.
أنقل لكم شعور واحد من الأيتام قبل هذا الاختراع المشئوم المسمى بـ"يوم اليتيم"، حيث كنت واحدًا من هذه الكائنات يومًا ما، وأرادت إحدى قريباتي، وكانت تعمل موظفة إدارية في المدرسة التي كنت أدرس بها، أرادت أن تكرمني و"تقوم معي بالواجب" حتى يتم إعفائي من المصروفات المدرسية، وكانت لا تتعدى وقتها 10 جنيهات، أو ما يزيد على ذلك قليلا لا أذكر، المهم أنها كانت ترغب في فعل الخير، وتحاول التخفيف عن والدتي رحمها الله.
أما حالي فكانت لا تشعر بالخير أبدًا من هذا الفعل الخيري الذي كان يسبب لي حرجًا وألمًا نفسيًا لا تتحمله نفس ضعيفة في سن الطفولة، حيث كنت كلما مر الإخصائي الاجتماعي أمام الفصل كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني، وأحيانًا كنت أحاول الغياب من المدرسة لهذا السبب، رغم أنني كنت من المتفوقين، فكانت الزيارة الكريمة للسيد الإخصائي الاجتماعي تتكرر في الأسبوع مرتين على الأقل لاصطحابي مع قطيع الأيتام في المدرسة للمشاركة في طابور التجريس الروتيني القبيح لنمر على جميع فصول المدرسة، وينادي المنادي على الأيتام اسمًا اسمًا، كنت أرى نظرة الانكسار في أعين زملائي الذين يحاولون ابتلاع "ريقهم" الذي يتعذر ابتلاعه لأنه مخلوط بمرارة الإهانة والألم، وهم يعايرون أمام زملائهم، رغم أن أغلبهم إن لم يكن كلهم من المتفوقين، ولسان حالهم يقول: لماذا هذا التجريس وما ذنبنا أن آباءنا قد توفوا وتركونا؟!
كنت أتمنى ساعتها أن يسمع أحد من المسئولين عن هذا الطابور ذلك الصوت المحبوس في صدري، وتلك الصرخة المخنوقة، التي تستجدي كل الكائنات الحية، بأن ترحم ضعيفًا وضع في هذا الموقف، ولا ذنب له فيه، كنت أقول لهم: لا تفعلوا معي هذا، أستحلفكم بالله فأنا أستطيع أن أدفع الجنيهات العشرة، فيداي الصغيرتان قادرتان على الكسب إن لم يستطع أهلي الوفاء بها، لا أريد منكم شيئًا فقط ارحمونا من هذا الذل.
كان الإخصائي الاجتماعي عندما يأتي لأي سبب كان للفصل، ينطلق زملائي مسرعين للإجابة عن السؤال الذي لم يسأله ويقولون، نعم، المذكور موجود، الغريب أن طابور التجريس الروتيني لم يكن يأتي منه فائدة تذكر إلا التوقيع على دفاتر وإيصالات لجميع الجهات الحكومية بدءًا من وزارة الإنتاج الحربي ومرورًا بوزارة الزراعة والري والتنمية المحلية حتى وزارة الإعلام والثقافة والمحافظ ومديرية الأمن ومكتب رئيس الوزراء ورئاسة الجمهورية، ومن الممكن أن تجد إيصالات أخرى لجميع سفارات الدول العربية والأجنبية والقنصليات، إضافة إلى جميع مكاتب وهيئات الأمم المتحدة العاملة في مصر، لتشهد جميعها على أن قطيع الأيتام في تلك المدرسة قد قبض كل منهم، عدًّا ونقدًا، مبلغًا وقدره 10 جنيهات مصرية فقط لا غير قيمة الإعفاء من المصروفات المدرسية.
وعليه أقول: ارحموا الأيتام من الاتجار بما ابتلاهم الله به من اليتم، وتذكروا قول الله عز وجل: {فأما اليتيم فلا تقهر}، ارحموهم فهم ليسوا في حاجة إلى التجريس بما قدره الله عليهم، لأنهم قد رضوا بقضاء الله وقدره. ونصيحتي لمن يرغب في أن ينال الأجر في اليتامى أن يكون فعله معهم في السر بدلا من "السيلفي" والنشر في الصحف والمواقع وعلي صفحات التواصل الاجتماعي، ولا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس، قال تعالى في سورة البقرة: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.