السبت 11 يناير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

فن النسيان!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أهم اختراع ابتكره الجنس البشرى هو الأرشيف، والأرشيف كلمة أجنبية معربة تعنى المكان المادى، أو المعنوى، الذى تحفظ فيه الوثائق الخاصة بموضوع تاريخى، أو جغرافى، أو عائلى...إلخ، كما تعنى حفظ هذه الوثائق والمعلومات بطريقة منظمة تسهل عملية الوصول إليها والاطلاع عليها والاستفادة منها.
الأرشيف بمعنى آخر، هو الذاكرة التى تم إنقاذها من الموت والدمار، والتى جرى انتقاؤها وتصنيفها وتحليلها لإنقاذها من العشوائية والعبثية.
الأرشيف هو الذاكرة دون عيوب الذاكرة، دون فوضى، أو نسيان.
مجتمع بلا أرشيف هو مجتمع بلا ذاكرة، لا يتعلم من ماضيه ولا يخطط لمستقبله، يعيش اليوم بيومه، والساعة بساعتها، لا أمل يرجى من تطوره، أو بقائه حيا.
فى فيلم يسرى نصر الله الرائع «جنينة الأسماك»، ٢٠٠٨، الذى لم يلق ما يستحقه من تقدير نقدى وجماهيرى، يدور أكثر من حوار حول ذاكرة السمك التى لا تتجاوز ثوان معدودة، سرعان ما ينسى السمك بعدها ما كان يفعله... فمثلا السمكة التى تشاهد رفاقها تسقط فى شباك الصياد وتحاول الهرب لتجنب مصيرها، سوف تنسى ما كانت تفعله بمجرد أن تستدير للجرى، وسوف تستدير مرة أخرى لتذهب بكامل إرادتها نحو الشبكة.
فى الفيلم التاريخى «ميمنتو»، التى تعنى «مذكرة»، للمخرج كريستوفر نولان، ٢٠٠٠، يعانى بطل الفيلم من فقدان الذاكرة القصيرة، فينسى كل ربع ساعة تقريبا ما كان يفعله قبلها، وتتحول حياته إلى دائرة جهنمية يدور فيها بلا هدف أو معنى.
وفى الأسطورة الإغريقية الشهيرة يقوم بطل اسمه سيزيف بخداع ملك الموت، فتحكم عليه الآلهة بالعذاب الأبدى الذى يتمثل فى حمل صخرة ثقيلة وتسلق جبل مرتفع، وكلما اقترب من قمة الجبل تسقط الصخرة فيعاود حملها والصعود من جديد... إلى الأبد.
واضح أن الأسطورة تعكس معنى آخر، هو أن الإنسان استطاع بالفعل الانتصار على ملك الموت من خلال الأرشيف، أما الذين بلا أرشيف أو ذاكرة، فهم الذين حكم عليهم بالعذاب الأبدى فى دائرة التخلف.
منذ عشرين عاما لا نكف عن المطالبة بإنشاء أرشيف للسينما وبقية الفنون فى مصر، وللأسف تتعاقب الحكومات، ويتعاقب وزراء الثقافة، وتتعاقب البرلمانات، ولا أحد يتخذ قرارا جديا بإنشاء «سينماتيك» أو أرشيف للمسرح أو للأغنية أو للتليفزيون أو لأى مجال فى مصر.
ومنذ خمسين عاما ونحن نشهد ضياع الأرشيفات وسرقتها وحرقها وتدميرها دون أن يتحرك أحد.
منذ فترة كنت أتحدث مع واحد من الأفراد الذين كرسوا حياتهم للأرشيف، عوضا عن مؤسسات الدولة، عندما أخبرنى أنه فشل ذات مرة فى شراء أرشيف سينمائى ضخم من أحد الباعة لأن بعض «الأشقاء» دفعوا مبلغا خرافيا فيه، ليس للاستفادة منه أو حفظه، لا قدر الله، ولكن لحرقه كنوع من التقرب إلى الله!
عليه العوض ومنه العوض.