كلما قلبنا فى أوراق ندوة «صناعة التطرف» التى نظمتها مكتبة الإسكندرية تجد فيها ما يستحق الاهتمام ويحقق الفائدة، وأمامنا الآن ورقة للكاتبة الكويتية «إيمان شمس الدين» مثيرة للدهشة بسيرتها العلمية فهى كاتبة فى عديد من الصحف وحاصلة على بكالوريوس فى الميكروبيولوجى وعلى ماجستير فى علم الاجتماع السياسي.
وتعد ماجستير فى الميكروبيولوجى فى كلية الطب – جامعة الكويت – وبهذه السيرة العلمية نتأمل كتابة قد تبدو معقدة بعض الشيء لكن قراءة متأنية تمتعك وتفيدك.
وعنوان الورقة «التطرف: مواجهة معرفية وتأصيل منهجي» وتبدأ «أن التشخيص العميق للإشكاليات العامة التى تواجه المجتمعات يحتاج لكى يعطى تصورات قريبة من الواقع عملية خروج عقلى وذاتى من صناديقها المعرفية وتأثيراتها البيئية، والجرأة فى نقد هذا الواقع وتحديد معوقات التطور والنهوض فيه»، ثم لعلها تخاطب منظمى الندوة إذ تقول «إن عقد المؤتمرات بحد ذاته خطوة جيدة لكنها يفترض أن تكون خطوة ضمن خطوات متتالية قادرة على معالجة الإشكاليات بشفافية ومواجهة صريحة، فالمستهدف اليوم هو الأمة كلها ومستقبلها وليس مجتمعا بذاته، ذلك أن وجودنا كأمة يجرى استهدافه من خلال استحضار الماضى بشراسة واستخدامه فى ضرب الحاضر ثم هدمه لبناء القادم بمعطيات تبتعد بنا جميعا عن مستقبل نريده مشرقا»، ثم تنتقل إيمان شمس الدين إلى حديث فلسفى عن المعرفة ومصادرها وكيفية صناعة الأفكار فتقول «إن مواجهات السلوك البشرى تحددها الأفكار التى تقود العقل، وهذه الأفكار تتشكل من خلال مصادر المعرفة أو بالدقة نظرية المعرفة. وإذا كنا نتحدث عن إشكالية التطرف فإننا نقول إن معالجة التطرف لا تتحقق بمحاولة معالجة ظواهره وإنما بمعالجة جذوره وتفكيك بنيته لإصلاحها جذريا».
ثم تسأل ما هى مصادر المعرفة وتجيب هى: الحس- التجربة- العقل- الوحي- الوجدان وهى تتداخل معا ويؤثر كل منها على الآخر. ثم تتحدث عن أدوات تشكيل هذه المصادر وهى : الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعى والإعلام والتكنولوجيا المتوافرة فى أيدى الأطفال.
لكن هناك أيضا مصادر للمعرفة تتمثل فى التراث والتاريخ بكل مصادره الدينية والسياسية والثقافية لكن العنصر الأكثر تأثيرا هو (الديني)، ثم الإعلام وأدواته والتكنولوجيا المتمثلة بمواقع التواصل الاجتماعي. والحقيقة أن معرفة أبعاد هذه الشبكة المعقدة للمعرفة يساعدنا على تفكيكها وتحديد مصادر الخلل فى بنيتها.
وبهذا فقط يمكن تشخيص أوجه الخلل فى مصادر المعرفة، وخاصة تلك التى تشكل الأفكار فى عقل الفرد والمجتمع.
مع ملاحظة الأهمية القصوى للجانب الدينى كمصدر معرفى وحياتي. ثم تعود إيمان شمس الدين لتضعنا فى مأزق فكرى جديد إذ تقول «والمشكلة ليست فى المعارف التى نعرفها ولكن المشكلة تكمن فى معرفة ما هى حقيقة المعرفة وما هى نوعية المعرفة التى يمكنها أن تنظم حياتنا وترشدنا للعيش الكريم».
ثم هى تزيد الأمر تعقيدا إذ تقول «إن التداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة لتلك المشاكل التى تداخل فيها السياسى بالمعرفى بالدينى ليخنق الإنسان لا ليخدمه. فما هو سياسى ليس ما يجب أن تكون عليه السياسة، وما هو معرفى ليس حقيقة ما يجب أن تكون عليه المعرفة، وما هو دينى ليس ما هو دين، فهذه التشابكات هى ثمرة مفهومات بشرية متداخلة ساقت لنا تجاربها وعصارة أفكارها لتصنع لنا واقعنا»، لكنها تأتى لتوجه اللوم إلى الجالسين أمامها فى الندوة فتقول «إننى أرى أن الخطوة الأولى لتشخيص الواقع فى هذا المحفل الكريم هو مواجهة الذات واللجوء إلى هؤلاء الذين يفضلون مصلحة الإنسان وصياغة المعرفة الصحيحة على مصالحهم الشخصية وعلى ذاتهم.. إنهم هؤلاء المستعدون للمواجهة الصعبة مع الذات من جهة، ومع الآخر من جهة أخري. عبر مواجهة معرفية تمتلك القدرة على فهم الواقع ثم مواجهته والعمل على إصلاحه مهما كلفها ذلك من ثمن على مستواها الشخصى أو الاجتماعى أو حتى على مستوى ما اعتادته من أفكار وعقائد»، ثم هى تأتى إلى ساحة الدين لتقول «إن هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها هى حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، فالمقدس بالنسبة للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته. والدين هو مصدر التفسير لمعنى الحياة والموت، وبالتالى تصبح حاجته للدين حاجة وجودية واجبة، فضلا عن كونها حاجة فطرية». وبعد هذه الجولة الفكرية الخصبة والضرورية تطرح إيمان شمس الدين السؤال الذى اعتاد الكثيرون القفز إليه فى أولى كتاباتهم عن التطرف وتسأل «ما الذى يسوق الشباب فى الغرب وغيره ممن هم فى مستوى معيشى جيد للهجرة إلى ولائم الذبح وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا، والتسابق على الانخراط فى وحشية عبثية تتلذذ بالدم وتتهافت على مغامرات مهووسة فى العمليات الانتحارية؟ وتجيب علينا بمرارة مقدمتها المهمة والمطولة لتقول «نحن اليوم أمام أزمة فهم دينى لا أزمة دين وهذا الفهم المأزوم مرجعه إلى مصادر المعرفة وأدواتها وكيفية إدراكها». ثم تستخدم تسميه جديدة لما نحتاجه هى «فلسفة الفهم» وميزة فلسفة الفهم هذه «أنها تنظم طريقة فهمنا وتفكيرنا فى النص الديني. وهذه إشكالية جدلية نتجت مدارس عديدة منها مثلا مدرسة داعش التى اعتمدت على القراءة النفسية المغلقة دون استخدام للعقل أو إدراك للزمان والمكان ودون مداورة (لعلها تقصد تأويل) هذه النصوص وإعادة فهمها بما يتناسب مع الحاضر ومعطياته».
وتواصل إيمان شمس الدين طرح فكرتها مؤكدة ضرورة نقد التراث الدينى وتجديد الخطاب الدينى، لكن ذلك يتطلب بالضرورة تمكين المؤسسة الدينية التى لها الدور الأهم فى هذه المهمة من أداء هذه المهمة بعد تحريرها لنفسها من دائرة الأفكار القديمة والثابتة دون الإخلال بالثابت من الدين مع قدرتها على تجديد إنتاج معرفى يتلاءم مع الواقع ومصلحة الإنسان ومع الزمان والمكان». ثم تقول وكأنها ترثى الواقع «لم يجد الخطاب الدينى المعتدل له محلا فى صياغات العقل الجماهيري، الذى استطاع الإعلام أن يرسم له خيارات مسبقة وقناعات متطرفة لتحقق الهدف الاستراتيجى للسياسات العالمية المهيمنة على العقل البشرى وساحة الفعل فيه».
وبهذه العبارة الأخيرة المشحونة ببعض الغموض تكون إيمان شمس الدين قد قالت كل شىء، فشكرا لها ولمكتبة الإسكندرية.