الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ارفعوا أيديكم عن الكنيسة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
صدعونا بالكلام عن الدولة العميقة.. ذلك المصطلح الذي نحته أحد أبرز مستشاري الرئيس أستاذ العلوم السياسية، والذي استقال مؤخرًا بعد أن صدمه الإعلان الدستوري قبل الأخير، والذي حصن قرارات الرئيس بأثر رجعي، في سابقة قانونية ودستورية فريدة على مستوى العالم، ويبدو أنه حسبها بدعة- وهي كذلك-ومن ثم فهي ضلالة ومآلها النار قطعًا، لكن النيران خرجت من الإعلان لتهدد الوطن بحريق لا يدرك مصدروه مداه.
وهناك من راق له الحريق.. فراح يغذيها بصب مزيد من الزيت عليها في نشوة نيرونية فاشية، فخرج علينا بتأكيدات لا تحتاج عنده لأغلظ الإيمان، بأن الكنيسة تحشد الأقباط للزحف إلى قصر الاتحادية واقتحامه، وأنها تدعم التيار الشعبي، والتقطت صحفه ومواقعه الإلكترونية وفضائياته مزاعمه لتنسج حكايات وتنسب إلى مصادر مجهلة تصريحات تعمق ما ذهب إليه، وبعيدًا عن الرد على كل هذا نجد أنفسنا أمام تخبط ما له من قرار، حاول به هؤلاء البحث عن مخرج يبررون به زحف الملايين من المصريين الرافضين لسعي الاختطاف بتحميل الكنيسة ومن ثم الأقباط مسئولية هذا الانفجار الشعبي، وكان الأمر محل تندر شباب “,”الفيسبوك“,” فتداولوا على صفحاتهم طرفة تحت عنوان “,”كلنا عباسية“,” تقول “,”الأقباط دول ناس عجيبة فعلاً بيبقوا 40% في الانتخابات و80% في الحشود و10% لما يعوزوا يبنوا كنيسة“,” وهي مقولة ترسم الواقع الذي يُنْظَرُ فيه للأقباط وفق قياسات كثيرين.
وبعيدًا عن الضحك الخارج من عباءة البكاء والمغلف بالمرارة سيظل الأقباط لغمًا قيد الانفجار طالما يتم النظر إليهم باعتبارهم رعايا لا مواطنين، وهم عند البعض جالية في وطن، ومن يتشكك في هذا عليه أن يراجع إشكاليات التعيين في وظائف بعينها- استنادًا إلى تأويلات للشريعة- وحظر تولي القبطي لمهام تحسب من الولاية الكبرى وصلت في دوائر دوامية إلى رئاسة اتحاد الملاك في بناية تأسيسًا على نفس التأويلات، وعليه أن يراجع حكايات بناء الكنائس الدامية، والتي تحتاج إلى قلم الراحل أسامة أنور عكاشة، صاحب الشهد والدموع، ليكتب مجددًا عن “,”الترصد والجموح“,”.
ومن يشيعون هذا لا يدركون وضعية الكنيسة المصرية باعتبارها من أقدم المؤسسات المصرية.. بل أقدمها على الإطلاق، ولا يدركون انحيازاتها للوطن حتى عندما يكون الصدام مع شقيقاتها من الكنائس الأخرى على أرضية العقيدة، وهو ما سجله تاريخ القرن الخامس الميلادي، لتواجه الكنيسة المصرية أهوال التمسك بوطنيتها، فيما انحاز المحتل الروماني (المسيحي) لرؤى أخرى، وكانت تملك أن تجلس في القصر الإمبراطوري تسود العالم المسيحي آنذاك.
ولم يدركوا وقد انكفئوا على أنفسهم دور الكنيسة في حفظ التراث المصري عبر رقائقه المتتالية، لغة وفنًّا وفلكلورًا وثقافة مصرية، في مناخات مضادة ومناوئة عنفية، ويمكن من خلال طقوسها الدينية اليومية التعرف عن قرب على الجدور الثقافية والحياتية المصرية، ولو وجد هذا التراث مكانه المناسب في ثنايا مناهج التعليم، في مستويات الدراسة المختلفة، وأبحاث الجامعة وإسهامات العلماء، واهتمامات آليات الثقافة عبر الكتاب، والفيلم والقصة والدوريات، وبث فضائيات الإعلام، وأقلام الكتاب، وصفحات الصحف، وأثِير الإذاعة، لما تعرضت أرضيتنا المصرية للتشقق، ولما برزت أزمات النحر في شطآن الوطن.
ومن يشيعون هذا العبث المنفلت في مناخ معبأ بالتطرف- بفعلهم أيضًا- عبر سنوات الكمون، وعبر اتفاقات خلف الجدران المغلقة مع أنظمة سابقة- تنكروا لها وانقلبوا عليها- لا يدركون أنهم يقذفون بكرات اللهب على وطن مشبع بمواد شديدة الانفجار، رسمت الذهنية العامة باتجاه التكفير والإقصاء، يبحث عن منفذ لطاقاته المضغوطة بالبطالة والانهيار الاقتصادي وتوابعه الاجتماعية وضلالته السياسية، حتى ليخال الناظر بتجرد أن الأقباط صاروا هدفًا مستدامًا، وصاروا عندهم أسرى في يدهم، ينتظرون الفتات الساقط من السادة الجدد وحوارييهم، ولعل من تابع أعمال الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور يضع يده على ما يؤكد ذلك، ويهلع قلبه لما ينتظر الوطن لو وجدت أقاويل هؤلاء طريقها إلى التصديق، لما يحمله هذا من نذر كارثية.
الكنيسة لمن أغلق أذنية عن سماع ما قالته وأكدت- منذ أن أسندت مهام قيادتها للقائم مقام البطريرك الأنبا باخوميوس ومن بعده البابا الجديد الأنبا تاوضروس- أن الكنيسة ليست لاعبًا سياسيًّا ولن تكون طرفًا في صراع سياسي، لكنها ستبقى أبدًا أمينة لدورها الوطني المحملة به منذ ولدت وحتى آخر المدى.
الكنيسة لمن أغمض عينيه عن دورها البارز في تضميد جراح الشباب الثائر عبر أبوابها المفتوحة لهم، وباحاتها التي تحولت إلى مستشفيات ميدانية، كانت وما زالت غطاء لكل بني الوطن بعيدًا عن طنطنة الترويج والدعاية المسيسة، تعمل في صمت اعتادته، وفي حب لا تحيا إلا به، بينما كان آخرون يتبنون سياقات التخوين والتكفير، وعندما حانت لهم الفرصة بعيدًا عن المؤسسات الأمنية، في تأسيس لميليشيات خربت لبنان والسودان والصومال بعقل بارد ودم فارق العروق أو تجمد فيها، أعادوا إنتاج آليات الأجهزة القمعية التي أطاحت بها ثورة الشباب المصري، وفاتهم أن التقنيات الحديثة رصدت وسجلت ونشرت جرائمهم.
أيها السادة.. ارفعوا أيديكم عن الكنيسة.. ولعلكم تدركون أن الأقباط هم الرقم الصعب في معادلة تاهت فيها الأرقام.