دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى مجموعة من الكتاب والصحفيين إلى لقاء فكرى مفتوح يوم ٢٢ مارس الماضى، وكنت من بين المدعوين.
وبعد أن افتتح الرئيس اللقاء بكلمة موجزة فتح باب النقاش، وكنت أول المتحدثين، وقد أثرت ثلاثة موضوعات رئيسية، وأنهيت مداخلتى بطرح ثلاث مشكلات.
أثرت أولا توصيفى للدولة بعد الموجة الثورية التي وقعت في ٣٠ يونيو وما تبعها من ٣ يوليو من إعلان خارطة الطريق التي اكتملت جميع مفرداتها بعد انتخاب مجلس النواب مؤخرا، وقلت إننى أطلقت على ما حدث بعد تولى «السيسى» رئاسة الجمهورية «عودة الدولة التنموية»، بحكم تركيزه الشديد على تخطيط الدولة للتنمية، وقيام أجهزتها المختلفة بتنفيذها.
وفى مقالاتى التي نشرتها من قبل في جريدة «الأهرام» أكدت أن مصر سبق لها أن شهدت نموذجين للدولة التنموية. النموذج الأول دولة «محمد على» الذي كان رائدا في بناء مصر الحديثة، لأنه أنشأ المصانع، وأسس المدارس، ونهض بالتعليم وبالترجمة، وأرسل البعثات للخارج. وقد عاد هؤلاء المبعوثون لكى يؤسسوا لنهضة مصرية شاملة. غير أنه عاب هذا النموذج من نماذج الدولة التنموية أن «محمد على» كان هو المحتكر لكل الصناعات، ولم تنشأ بجانبه طبقة من رجال الأعمال. أما التجربة الثانية في التاريخ المصرى المعاصر فهى الدولة التنموية التي أسسها «جمال عبدالناصر» قائد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فقد تولت الدولة التخطيط للتنمية الشاملة، وساعدها على تنفيذ برامجها المتعددة أنها قامت بتأميم مؤسسات القطاع الخاص، وأنشأت القطاع العام، كما قامت بعد عدوان عام ١٩٥٦ بتمصير الشركات الأجنبية.
وكانت هذه من سلبيات التجربة، لأن القطاع العام الذي نجح إلى حد ما في إشباع الحاجات الأساسية للجماهيرية سرعان ما أصابه التكلس والركود، مما جعله يصبح من بعد عبئا على الدولة، وأصاب التجربة الثانية من الدولة التنموية بالفشل، لأن الدولة اندفعت إلى الخصخصة للتغلب على خسائر القطاع العام، وما تبعها من تسريح للعمال، مما أحدث توترات اجتماعية متعددة.
غير أن الدولة التنموية في عهد «السيسى» لا تستبعد القطاع الخاص من المشاركة في تنفيذ المشروعات التنموية، لكنه يعمل تحت إشرافها ورقابتها، منعا لقيام شبكات الفساد بين أهل السلطة وأهل الثروة كما حدث في عصر «مبارك».
غير أننى في مداخلتى انتقلت إلى نقطة مهمة، وهى أن عودة الدولة التنموية -رغم أهميتها البالغة- لن تنجح إلا إذا حدثت موجة تجديد مؤسسى ضخمة تشمل الأحزاب السياسية التي ينبغى أن تتحول لتصبح أحزابا سياسية تنموية تكون لها رؤية تنموية، مما يسمح لها بأن تشارك بندية في عملية وضع الدولة لخطة التنمية المستدامة، ليس ذلك فقط بل لا بد لها أن تتحول بذاتها إلى مؤسسات تنموية تساعد في إقامة مشاريع التنمية المتوسطة والصغيرة، مما يتيح لها أن تبنى لها قواعد جماهيرية. وكذلك الحال بالنسبة لمنظمات المجتمع المدنى والتي تقع عليها مسئولية الاهتمام بالحقوق الاقتصادية للمواطنين، ولا تكتفى فقط بالدفاع عن الحقوق السياسية، ولا بد لها أن تتجدد لتصبح هي أيضا مؤسسات تنموية وتنويرية.
كل ذلك إضافة إلى أهمية التجدد المعرفى للنخب السياسية القديمة والشبابية، حتى يعرفوا منطق التغيرات العالمية في الاقتصاد والسياسة والثقافة.
غير أنه -وهذه نقطة بالغة الأهمية- ينبغى أن تعرف أن هناك إجماعا عالميا الآن حول عقم صيغة «الديمقراطية النيابية»، لأن النواب المنتخبين الذين من المفروض أن يمثلوا الأمة ككل أو مصالح الطبقات التي يدافعون عنها تبين أنهم لا يدافعون إلا عن مصالحهم. ولذلك برزت صيغة جديدة للديمقراطية هي «ديمقراطية المشاركة». ومن هنا علينا أن نبدع صيغة مصرية جديدة للديمقراطية تنتج الفرصة للنقابات المهنية وللخبراء ولمراكز الأبحاث وللأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى كى تسهم في وضع إستراتيجية التنمية المستدامة، وأن تشارك في تنفيذها وفى الرقابة على مشروعاتها.
وانتقلت مداخلتى إلى التعليق على رؤية التنمية لمصر ٢٠-٣٠ التي أعلنها الرئيس «السيسى» مؤخرا، وقلت إنها وإن كانت ترجو تحقيق عدد من الأهداف المهمة، إلا أنه كان عليها التركيز على مشكلات مصر الكبرى. ذلك أن معدل الأمية هو ٢٦٪، وهناك ٢٦ مليون مصرى يعيشون تحت خط الفقر، وثمانية عشر مليون مصرى يعيشون في العشوائيات، إضافة إلى تدهور مستوى التعليم، وتدهور مستوى تدريب القوى البشرية.
ولذلك كانت هناك حاجة إلى إبراز أولوية المشكلات التي سيتم التصدى لها مع استخدام لغة التخطيط في مخاطبة الرأى العام، بمعنى أن يحدد بالنسبة لكل مشكلة مدى زمنى لحلها جزئيا أو كليا، وذلك في المدى القصير أو المدى المتوسط أو المدى الطويل.
وأشرت إلى أهمية صياغة «سياسة ثقافية جماهيرية» تقوم على أساس تدعيم العقل النقدى، والارتفاع بمستوى الوعى الاجتماعى للمواطنين، ومواجهة التطرف والإرهاب.
وأنهيت مداخلتى في لقاء الرئيس بالإشارة إلى أربع مشكلات رئيسية، الأولى هي أن «الإعلام» أصبح إعلاما مريضا، حيث يتحكم الإعلان في القنوات التليفزيونية الخاصة التي يملكها كبار رجال الأعمال والذين يستخدمون مذيعين في برامج «التوك شو» يساهمون في تزييف وعى الجماهير بتركيزهم على تفاهات الحياة اليومية وعدم تصديهم لمشكلات الوطن الكبرى. والدليل أن هذه القنوات لم تعط خطة تنمية مصر ٢٠-٣٠ ما تستحقه من حوار يقوم به خبراء التنمية لمواجهة سلبيات الخطة والإعلاء من شأن إيجابياتها. وقلت إن تدخل الدولة في هذا المجال ضرورى بما لا يتعارض مع حرية الإعلام.
كما اقترحت إلغاء المواد الخاصة بازدراء الأديان من قانون العقوبات، لأن مصر دولة مدنية وليست دولة دينية، وطالبت ثالثا بعدم الاستمرار في إجراء محاكمات لمؤسسات المجتمع المدنى على أساس أن يعقد مؤتمر تدعى إليه هذه المؤسسات لتحدد أمام الرأى العام طبيعة، وكم التمويل الأجنبى الذي حصلت عليه ونوعية المشروعات التي قامت بها. ولو كانت هناك مخالفات قانونية يحاسب عنها المسئول. وختمت مداخلتى بأنه ينبغى إقامة التوازن الدقيق بين الحفاظ على الأمن ومحاربة الإرهاب واحترام حقوق الإنسان في نفس الوقت.