هذا كلام ليس جديدًا بالمرة، قلته منذ أسابيع فى برنامج تليفزيونى بشكل عابر، توقف أمامه قليلون، ولما خرجت قصة التشكيل العصابى الذى قيل إنه قتل طالب الدكتوراه الإيطالى جوليو ريجينى، انصرف الجميع عنها، ورغم أن المشككين فيها كانوا أكثر من الذين صدقوها، إلا أنها فى النهاية نالت اهتمام الجميع.
مصدر اعتبروه مسئولًا، أكد أن لدى جهات التحقيق ما يثبت أن الطالب الإيطالى قتل فى حادث شرف، وأنه كانت هناك علاقات نسائية عديدة فى حياته، وهو ما قاله لنا بعض جيرانه أيضًا، ولما أراد مقربون من التحقيقات أن يسربوا التسجيلات التى تثبت علاقاته الجنسية، قيل لهم من مسئول كبير، إنه لم يكن وحده فى هذه العلاقات، كانت هناك أخريات، وطالما أن الله سترهن فلا يجب أن نفضحهن نحن.
لا أشك فى صدق هذا المصدر، لكن السؤال هو: لماذا تم حجب هذه المعلومات؟، هل لم تكن صحيحة؟ وأراد تسريبها ليشغل بها الرأى العام، وإذا كانت غير حقيقية، فما هو الحقيقى فى هذه القضية الملتبسة، التى يبدو أنها ستحاصر جهاز الأمن المصرى طويلًا؟.
بعد أن أعلنت الداخلية فى بيانها أن التشكيل العصابى الذى تمت تصفيته فى صحراء التجمع الخامس هو من فعلها، ثم عادت لتقول عبر متحدثها الرسمى إنها لم تعلن فى أى بيان أن هؤلاء قتلة الطالب الإيطالى، وإن التحقيقات لا تزال سارية، كان أن ظهرت أمامى الحكمة المصرية التى يؤمن بها أهلنا فى الريف «كدب مساوى.. ولا صدق مفرق».
ما أميل إليه أن جهاز الأمن المصرى لم يفعلها، لن أناقش هنا ما إذا كان محترفًا أو أنه يقع فى أخطاء لا يقع فيها هواة، فهذه مناقشة بالنسبة لى مرذولة جدًا، فلو أنه فعل لما ظهرت الجثة على الإطلاق، وهناك مئات من حالات الموت الغامض فى مصر وخارجها، ولن يكون «ريجينى» أعز من أصحابها من المشاهير الذين تمتد لهم قائمة طويلة.
وعليه فلدى الأمن المصرى تفاصيل كثيرة متفرقة فيما يخص مقتل الطالب الإيطالى، لن ينقصها إلا محترف يستطيع أن يصيغها بما يتناسب مع العقل والمنطق، بدلًا من هذه الصياغات المتهافتة التى تجر عليه السخرية من كل حدب وصوب.
قد تكون الحقيقة التى يعرفها جهاز الأمن صعبة، وقد لا تقنع الجانب الإيطالى، لكن ليس أمامه إلا أن يقولها، حتى لو كانت تكلفتها كبيرة، فتكلفة الحقيقة مهما كبرت أقل كثيرًا من أى تكلفة أخرى.
يمكنك أن تعرف الكثير من المعلومات عن قضية «ريجينى» عندما تستعرض ما لدى وزارة الداخلية من تحقيقات وتحريات، وقد تعرف أكثر عندما تطلع على تحقيقات النيابة.. وهى بالمناسبة متاحة للجميع، لكن هناك سؤالًا لا يجيب عنه الكثيرون، وهو: ما الذى فعله هنا فريق التحقيقات الإيطالى الذى كان موجودًا من اللحظة الأولى لاكتشاف الجثة؟.
فى بيان الداخلية الذى تم التراجع عنه قليلًا، تمت الإشارة إلى شكر رسمى إلى الفريق الإيطالى، لم يقل لنا أحد: كم كان عدد هذا الفريق، ولم يقل لنا أحد ما هو دوره فى جمع التحريات والتحقيقات، ولم يقل لنا ما الذى توصل إليه، ولماذا لم يعقد مؤتمر صحفى فيه ممثل للفريق الإيطالى يكمل لنا رواية الداخلية، ويصدق عليها، أم أن ما توصل إليه جهاز الأمن المصرى لم يقنع الفريق الإيطالى فتوارى عن الأنظار، ستقول لى إن ظهور المحققين بشكل علنى سيعد تدخلًا فى شئوننا، سأقول لك لقد هان كل شىء، وأمام المصيبة لا تحدثنى عن أمور نظرية، خلصنى فقط من الكارثة التى حلت بنا.
أعرف أن جهاز الأمن المصرى الآن فى ورطة شديدة، فهو محاصر من الجميع، لا يرضى عنه أحد، يتحمل هذه المرة وزر جريمة لم يرتكبها، ولذلك فليس عليه إلا أن يقول الحقيقة، لكنه قبل أن يقولها عليه أن يفكر فى إخراج جيد لها، فقد يكون ما لديه هو ما حدث بالفعل، لكن حالة الارتباك التى يعانى منها، جعلتنا لا نطمئن إلى ما يقوله.. بل كانت السخرية هى نصيبه.
والسؤال: متى تنتهى حالة الارتباك هذه؟
لا أحد يعرف ولا حتى المسئولون الكبار فى جهازنا الأمنى.. وهذه تحديدًا مصيبتنا الكبيرة!.