أودع عامى الثالث والخمسين.
فى الثانية عشرة صباحًا، تتهادى الذكريات أمام عيني، طائر أبيض، لوحة زيتية يتماوج داخلها الأزرق والأخضر والأصفر، طريق طويل، طويل، ينتهى دائمًا بالسفر.
الآن أدرك أن النهايات باتت أقرب وأننى أبعد ما أكون عن بداياتى الأولى فى قريتى البعيدة فى صعيد مصر، لكننى مبتسم، فرح، قادر على الوقوف فى وجه التحديات، مشرق بالأمل، متحد، أمتعض فى ساعات كثيرة، لكنى أدرك أن الأوقات هكذا، لا تسير على وتيرة واحدة. أحيانا أحس بالغربة وأحيانا أحس بقرب الأجل، ولكنى فى أوقات المحنة أمتلئ بالقوة والتحدى والأمل، لا شىء يكسرنى سوى موت الرجاء، حتى فى هذه الأثناء، أيضا، أتذكر ما مضى من حياتي، فتصبح أيامى حدائق ورد.
العمر يجرى ولا شىء غيرك يذكرنى بالنهار، بالشمس التى اتحدت بجسمك كى تضىء، بالنهايات.... البدايات البعيدة، وقت الظهيرة فى الديار، وجه أمي، وجه أختي، وجه الرفاق القدامى فى الغيطان.
فى شوارعنا القديمة تتبعين خطاي، تتمثلين رسمي، تناورين بكل شىء كى أراك، أفطن إلى وجودك، لكنك لا تعلمين أنك تسكنيننى منذ كنت طفلا. حين تنطفئ المرايا تتقدين، تبرزين من ألف ناصية تتحدين بى وتنتحبين.. تغنين.. ترقصين.. ثم تنامين على ذراعى فى الجهة الوحيدة حيث أرفع رايتى للعاشقين ولا أرى أحدًا سواكى.
فى العام الثالث والخمسين تختلف المعارك التى نخوضها، يختلط فيها الخاص بالعام، الوطن بالحبيبة، ولا شىء غيرك يستطيع اختراق حاجز الصمت وإخبارهم بآلامى.
أنت العرافة المستحيلة، الساعة الرملية، الأنثى الأزلية، شاهدة العصر، أيقونة العمر، شجرة المانوليا، والطوفان.
فى العام الثالث والخمسين أسلم إليك يدى.. وأنام.