لقد أقدم الكثير من المتخصصين فى العلوم الإنسانية على تناول مشكلات العالم المعاصر، ولا يتسع المقام، كما لا يسمح الجهد، بعرض نماذج لمحاولات المتخصصين فى مختلف تلك المجالات، ولذلك فسوف نكتفى بالتعرض لبعض محاولات المتخصصين فى علم النفس فى تناول قضايا العالم المعاصر.
وفى الحقيقة، فإنه من بين المدارس النفسية العديدة تبرز مدرسة التحليل النفسى، باعتبارها المدرسة الرئيسية –إن لم تكن الوحيدة– من مدارس علم النفس ذات المحاولات المحددة فى هذا المجال، ولعل ذلك يرجع إلى أن بناءها الفكرى حتى فى صياغته الأولى التى قدمها رائد تلك المدرسة –أعنى سيجموند فرويد– أنما يتكون من مزيج بين مجموعتين من الأفكار، تدور المجموعة الأولى حول التسليم بأننا إذا ما تتبعنا التطور التاريخى الذى سلكته البشرية لوجدناه يرجع إلى جماعة وقبيلة بدائية، يرأسها زعيم واحد يدين له الجميع بالولاء والطاعة، ويحتكر لنفسه كل نساء القبيلة ويجعلهن محرمات على أبناء القبيلة والاقتراب من أى منهن، وينتهى الأمر بأن يقتل الأبناء أباهم الزعيم متحملين فى سبيل ذلك أقصى المشاعر بالخطيئة والإثم، ولقد توارثت البشرية تلك المشاعر التى حكمت أبناء وبنات القبيلة البدائية الأولى جيلا بعد جيل، ولم يتم ذلك التوارث عن طريق الانتقال التاريخى عبر الوعى الشعورى للبشرية، فإن قوة تلك المشاعر قد دفعت بها إلى أعماق اللاشعور أو ما يمكن أن يسمى باللاشعور السلالى، أما المجموعة الثانية من الأفكار فتقوم على التسليم بأن المشاعر المؤلمة والصادمة والمرتبطة بالشعور بالإثم، كل تلك المشاعر والخبرات يقوم الفرد بكبتها أو يدفعها إلى اللاشعور الذى يمكن أن يسمى حينئذ بلاشعور الفرد، ومن خلال المزج بين هاتين المجموعتين من الأفكار يصل التحليل النفسى إلى أن حياة الفرد إنما هى تلخيص للتاريخ البدائى للجنس البشرى، وأن الطفل مطالب بالانتصار على البذور البدائية فى داخله خلال السنوات الثلاث الأولى وكبتها فى اللاشعور، ونظرا لأن ذلك الانتصار لا يمكن أن يكون نهائيا ولا حاسما، فإن ما كبت يظهر فى صور مختلفة من الأحلام والأعراض العصابية.
لقد فرض هذا البناء الفكرى على مدرسة التحليل النفسى منذ البداية ارتباطا بقضية تخرج عن الحدود المباشرة لعلم النفس، أعنى قضية نشأة المجتمع الإنسانى وهى قضية تاريخية أنثروبولوجية تماما، ولعل ذلك هو ما يفسر ارتباط الفرويدية منذ البداية ارتباطا وثيقا بالأنثروبولوجيا، وبوجه خاص بالأنثروبولوجيا التطورية البريطانية، وبالتحديد نظريات روبرتسون سميث، ويكفى للتدليل على هذا الارتباط أن فرويد قد وجد فى نظريات سميث التبرير للعديد من المفاهيم الأساسية فى التحليل النفسى، مثل فكرة الجماعة البدائية الأولى، وما ارتبط بها من توارث للذكريات على نطاق السلالة، ومن البيولوجية الولادية للمراحل الجنسية الطفلية إلى آخره.
صحيح أن تطور البحوث الأنثروبولوجية قد غير من الموقف كثيرا، بل إن الأنثروبولوجيا الحديثة ترفض رفضا يكاد يكون قاطعا مثل تلك الأفكار، وصحيح كذلك أن التيار العام للتحليل النفسى لم يعد يلح كثيرا على أفكار من هذا النوع، إلا أن كل ذلك لا ينفى أن مدرسة التحليل النفسى قد ارتبطت تاريخيا منذ بداية نشأتها بقضايا تخرج عن النطاق المحدود لعلم النفس.
نخلص من ذلك إلى أن مدرسة التحليل النفسى كانت تحمل منذ نشأتها بذور التطلع إلى تقديم نظرية شاملة لوجود الإنسان فردا، وتاريخا، وحضارة، ونستطيع أن نلمح تعبيرا صريحا عن ذلك الطموح فى كتاب «المدينة ومنصاتها» الذى أصدره سيجموند فرويد عام ١٩٣٠، أى قبل وفاته بتسع سنوات، محاولا فيه تناول العديد من القضايا الحضارية ذات الطابع الثقافى العام، بل الوصول إلى صياغة نظرية عامة تفسر الحضارة الإنسانية فى شمولها، وتصل إلى حد طرح التساؤل عن مستقبلها، ومنذ صدور كتاب فرويد المشار إليه عام ١٩٣٠ حتى الآن، لم يكف الكثيرون من أتباع نظرية التحليل النفسى عن الاهتمام بالقضايا المعاصرة، بل وتناولها تناولا يؤدى فى الغالب إلى صبغهم لها برؤيتهم الخاصة النابعة من تخصصهم المحدد، لقد كتب المحللون النفسيون عن العديد من قضايا الإنسان المعاصر، ولكن أكثر ما كتبوه خطورة فيما نرى هو كتاباتهم التى حاولوا بها تحليل بعض الظواهر السياسية التاريخية المعاصرة، وترجع أهمية تلك الكتابات بالتحديد إلى أنها تطرح مشكلة نظرية بالغة الأهمية والخطورة من الناحيتين المنهجية والعلمية، ونستطيع أن نضع المشكلة فى صورة السؤال التالى: هل ما يصدق على الفرد يصدق بالتالى على الجماعة؟ أو بعبارة أخرى هل القوانين التى تحكم نمو الأفراد هى بالضرورة نفس القوانين التى تحكم تطور المجتمعات؟ وهل القوانين التى تفسر سلوك الأفراد تصلح بنفس الكفاءة لتفسير حركة الجماهير؟ ولعل طرحنا للمشكلة بهذه الصورة يشير إلى أن التيار العام للتحليل النفسى رغم أنه لم يعد يلح كثيرا –كما سبق أن ذكرنا– على فكرة أن حياة الفرد إنما هى تلخيص للتاريخ البدائى للجنس البشرى، فإن جوهر تلك الفكرة، أى المطابقة بين ما هو فردى وما هو جمعى من حيث القوانين العامة، هذا الجوهر ما زال له صدى يتردد، بل يكاد يصل إلى أن يكون صوتا مسموعا فى كتابات المحللين النفسيين عند تناولهم للقضايا المعاصرة، ولسوف نعرض بشيء من التفصيل محاولة من أبرز محاولات أبناء مدرسة التحليل النفسى لتناول قضايا ذات طابع سياسى اقتصادى تاريخى، وهى محاولة أريك فروم لتحليل أزمة المجتمع الرأسمالى الغربى فى نهاية الثلاثينيات.