لا يعرف قلمى طريقه إلى الكتابة إلا بتحرك مشاعرى نحو موضوع معين، فيجرى القلم وينطلق بإرادته، ولكن مع اتخاذ قرارى أن أكتب عنها وجدت القلم يرتعد بين أناملى، بين لهفة وحيرة، لهفتى أن أكتب عنها بعضا مما أشعره ولا يسعفنى لسانى أن أنطق به خوفا من انهمار دموعى، وحيرتى ألا يستطيع قاموسى اللغوى أن يعطيها جزءا مما تستحق، فهى «أمي» سيدة كونى، ولا أحب أن أكرر ما يقوله البعض، إن أمى متفردة ليست كغيرها من الأمهات!! رغم أنها حقيقة ولكنى سأحاول وأجتهد أن أمنطق قلبى وأهذب لهفتى وأحكى عنها بموضوعية.. تزوجت أمى وهى فى السادسة عشرة من عمرها وأبى رحمه الله «ملازم شرطة»، تفتحت عيناى وأنا أراهما نموذجا للمودة والرحمة، وهبهما الله ثلاثة أبناء، عاشا من أجلهم، فلم يدخرا وسعا فى تحقيق السعادة والأمان، استكملت أمى دراستها مع عدم تقصيرها، فى أى شأن من شئون حياتنا، وأصيب أبى مرتين بسبب وأثناء خدمته الشرطية، وكانت أمى تمكث تحت قدميه بالشهور حتى يتعافى، وأصبحت مضربا للأمثال حتى توفاه الله، ففى الحادث الأول ظلت ستة أشهر ونصفا معه فى حجرته بمستشفى الشرطة بالعجوزة، وكان يداعبها الأطباء بقولهم: «لازم نعملك تمثال بمدخل المستشفى مزارا للزوجات».. لم تتركه لحظة. وأتذكر إصابته الثانية وكنا نعيش فى بورسعيد أيام كان ضابطا بأمن الموانئ، وكانا بعيدين عن أسرتيهما، وكنت وشقيقتى «دكتورة رانيا» فى المرحلة الابتدائية، كانت أمى توقظنا ونذهب للمدرسة مع زميل أبى وتذهب هى إلى المستشفى حاملة الأطعمة والملابس والمفروشات، وعلى يدها شقيقى الأصغر «نقيب دكتور/أحمد» وتظل فى المستشفى إلى منتصف الليل، نعود من مدرستنا إلى المستشفى، تساعدنا فى إنهاء الواجبات والمذاكرة، وتطعمنا وننام على سرير المُرافق لبضع ساعات، وهى واقفة على قدميها لخدمة أبى، ولا نتركه إلا حين يغلب النوم عيونه، فتحمل شقيقى على يد واليد الأخرى تمسك بيدينا أنا وشقيقتى، وعلى ظهرها الشنط، وهى تحمل قصاصة ورقية تحتوى جميع طلباته حتى لا يسقط سهوا شىء مما يريد.. ونعود لتبدأ فى تجهيز طعام اليوم التالى وغسل وكى ما يحتاجه أبى، ولا أعرف متى كانت تنام؟! وكيف لم ينفد صبرها أو تعنفنا أو تتغافل وتسهو عن احتياجات أبى!! أو يغادر وجهها البشاشة والترحاب بالجميع!!.. هذه السيدة سر سعادتنا، ومحور حياتنا، استطاعت بقدرة فائقة أن تجعلنا نجمع بين منتهى الحرية والالتزام، حلمت أن يحصل ثلاثتنا على الدكتوراه ووقفت بجوارنا وخلفنا، حتى تحقق حلمها.. وأيضا لا أعرف كيف استطاعت أن تكون هى المرجع الأقوى فى دراساتنا المتنوعة سواء الإعلامية أو الموسيقية أوالقانونية، وحتى لأبى رحمه الله حين كان يقوم بإعداد الماجستير ثم الدكتوراه، فكلنا نعود إليها ونستقى منها الكثير من المعلومات، بثقافة واسعة وحكمة بالغة، وقدرة على تذليل العقبات.. أمى لا تعرف من متع الحياة إلا أن ترانا سعداء، فنحن زادها وزوادها، فهى كما تقول «أنا بعيش عمرى فيكم».. لا يشغلها أن تزور الأماكن والبلدان، ولكن أن نزورها نحن ونحكى لها عنها.. أمى ماهرة فى بناء الإنسان، تكره الضعف والانكسار، فكم عانينا من جبروت وطغيان المتجبرين أثناء دراساتنا وحياتنا العملية، ولكنها زرعت فينا «أن أكبر الجهاد قول الحق فى وجه سلطان جائر».. وحين يصيبنا الإحباط تقوينا بإيمانها وبوعد الحق سبحانه وتعالى: «وعزتى وجلالى لأنصرنك ولو بعد حين»، وتقول: «هؤلاء أصحاب فضل عليكم، وشاركوا فى تكوين شخصياتكم، فهم سبب قوتكم وتفوقكم لأنهم سبب خلق الإرادة والتحدى داخلكم، عليكم أن تتخيلوا حياتكم بلا محاولات كسركم، ستكون حياة رتيبة تمرون بها كملايين البشر بلا أدنى تأثير!!».. وشعارها «الضربة إللى ما تقتلش تقوي».. استطاعت أمى أن تمتلكنا بالحب، فمنذ صغرنا وعقابنا عدم الحديث معها، وهو أقسى عقاب لأنه يجعل الدنيا بأكملها بحجم نملة، لا قيمة لشىء لو غضبت ولا إحساس بفرحة إلا بعد الحكى لها، فضحكتها ورضاها جواز سفر للسعادة، أمى ليست أما لنا فقط، ولكنها أما لوالديها فكانت بارة وحاضنة لهما حتى استودعتهما رحمة الله، وتعيش أما لأشقائها الخمسة الرجال، والتى تتوسطهم وتمنحهم الحب والاحتواء، ومن فرط حنانها وارتباطهم بها يتعجب البعض ممن لا يدركون معنى التفانى من أجل لملمة الأهل!! أمى نعم الصاحب والصديق، صابرة صادقة حنون، كاتمة الأسرار وملهمة الأفكار، تعيش داخلى ومعى، فى سكونى وثوراتى، فى دموعى وضحكاتى، أتنفس أنفاسها وأرى الدنيا بعينيها، لا تجرؤ قدمى أن تخطو خطوة لا ترضيها أو ينطق لسانى كلمة تغضبها، تشعر بى مهما بعدت بيننا المسافات، وتحتفظ مسام جسدى بلمساتها لتقوينى، حضن أمى أرحب من الأرض وأطهر من المحراب.. أمى.. أمى.. أمى.. لا حرمنى الله منك أبدا.. يا رحمة الله على الأرض وجنته المسكونة بالطمأنينة والمحبة والسلام.
آراء حرة
"أمي".. رئيس مجلس إدارة عمري
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق