السبت 11 يناير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

جورج طرابيشي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من بين كتب النقد الأدبى التى قرأتها فى حياتى يظل أكثرها تأثيرا أعمال الناقد والمترجم والمفكر السورى الكبير، جورج طرابيشى، الذى رحل الأسبوع الماضى عن عمر ٧٧ عامًا وعشرات الكتب المهمة التى تركت بصمات لا تمحى على الثقافة العربية.
كان بداية تعرفى على أعمال جورج طرابيشى من خلال كتابه «عقدة أوديب فى الرواية العربية» الذى قرأته فى نهاية الثمانينيات. كنت وقتها معجبًا بمدرسة التحليل النفسى، وقرأت بعض كتب سيجموند فرويد التى ترجمها إلى العربية محمد عثمان نجاتى، وكتاب «تفسير الأحلام» الذى ترجمه الدكتور مصطفى صفوان وصدر عن دار المعارف. 
كتاب «عقدة أوديب فى الرواية العربية» يسير على نهج فرويد فى تحليل النصوص الأدبية والأعمال الفنية باعتبارها تجليات للاوعى الفنان، كما فعل فى تحليله الشهير لمسرحيتى «أوديب» لسوفكليس و«هاملت» لشكسبير ولوحات الفنان ليوناردو دافنشى. فى كتاب «عقدة أوديب» يحلل جورج طرابيشى أعمال أربعة أدباء هم إبراهيم عبدالقادر المازنى وتوفيق الحكيم وأمينة السعيد وسهيل إدريس، ويستخلص من هذا التحليل أن الدافع النفسى السرى وراء معظم هذه الأعمال هو العلاقة المضطربة بالأب والأم التى تتجسد فى مثلث عقدة أوديب.
فيما بعد لم أترك كتابا لجورج طرابيشى لم أقرأه، من أعمال فرويد التى ترجمها عن الفرنسية، إلى كتبه التالية التى واصل فيها عمله فى التحليل النفسى الأدبى مثل «الرجولة وأيديولوجيا الرجولة فى الأدب العربى» و«أنثى ضد الأنوثة دراسة فى أدب نوال السعداوى على ضوء التحليل النفسى»، و«رمزية المرأة فى الرواية العربية»، و«الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، و«شرق وغرب رجولة وأنوثة.. دراسة فى أزمة الجنس والحضارة فى الرواية العربية». 
فى الجملة الافتتاحية للكتاب الأخير مثلًا يقول طرابيشى:
«فى مجتمع أبوى شرقى، متخلف ومتأخر، مشحون حتى النخاع بأيديولوجيا طهرانية، متزمتة وحنبلية، يغدو مفهوم الرجولة والأنوثة مفهومًا موجهًا لا للعلاقات بين الرجل والمرأة فحسب، بل أيضًا للعلاقات بين الإنسان والعالم».
ومن خلال تحليله لسبع روايات منها «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح و«الحى اللاتينى» لسهيل إدريس، يبين جورج طرابيشى كيف أن العقلية الشرقية تنظر لعلاقتها بالغرب من خلال مفهوم الذكورة والأنوثة، وبالتحديد من خلال تحويل الجنس إلى أداة للهيمنة والانتقام وتفريغ النزعات السادوماسوشية، وليس باعتباره تعبيرًا عن الحب والتفاهم. 
هذا المنهج فى تحليل النصوص الأدبية يشبه إلى حد كبير ما فعله المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد فى كتابه «الاستشراق» الذى أسس فيه لعلم «الاستشراق»، حتى يمكن أن نصف منهج طرابيشى بـ«الاستغراب»، أى تحليل الصور التى ينظر بها الشرق إلى الغرب.
وأعتقد أنه لا يمكن الحديث عن الاستشراق، الذى يهدف إلى نقد التفكير الغربى، بدون الحديث عن الاستغراب، الذى يهدف إلى نقد الذات، وطريقتنا فى رؤية العالم والتعامل معه، وهى المهمة التى كرس جورج طرابيشى لها سنوات طويلة من عمره وآلافًا من الصفحات من كتبه، ولا أعتقد أن أى مثقف عربى حقيقى يمكن أن يفوته قراءة كتابه «المثقفون العرب والتراث.. التحليل النفسى لعصاب جماعى»، بالإضافة إلى مشروعه الكبير «نقد نقد العقل العربى» الذى يتكون من أربعة أجزاء، والذى يمكن اعتباره أكمل وأشمل تأريخ للعقل العربى وعلاقته الممتدة بالعقل الأوروبى تأثيرا وتأثرا وتبادلا وتنافرا.
أعتقد أن منهج طرابيشى فى تحليل الأدب العربى والثقافة العربية ترك أثرا كبيرا علىّ كناقد سينمائى، رغم أنه ظل مخلصا ومكتفيا بأفكار فرويد، التى تطورت كثيرًا على يد تلاميذ مثل كارل يونج وإيريك فروم وجاك لاكان وغيرهم، وقد قمت بتحليل العديد من الأفلام والظواهر السينمائية على طريقة التحليل النفسى ودائما كان فى خلفية عقلى كتابات طرابيشى الرائدة والفريدة فى «عقدة أوديب» و«الرجولة وأيديولوجيا الرجولة» و«شرق وغرب» وغيرها.
عندما توفى جورج طرابيشى يوم الأربعاء الماضى (١٦ مارس) أعادت بعض الصحف والمواقع نشر مقاله الأخير «ست محطات فى حياتى»، وهو مقال وداعى يتحدث فيه عن أهم الأيام والمواقف فى حياته التى حددت مساره ومصيره وتفكيره وينتهى المقال بالفقرة التالية التى يبدو أنه كان يودع بها حياة طويلة كرسها للكتابة فى سبيل أمته: 
«يبقى أن أختم فأقول إن شللى عن الكتابة، أنا الذى لم أفعل شيئًا آخر فى حياتى سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتًا صغيرًا على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذى هو موت الوطن».
وكأن طرابيشى لا ينعى نفسه فحسب، بل الوطن كله الذى مزقته الحروب الأهلية والقلاقل والاستبداد، وكأنه يقول إن جهد حياته ضاع هباء، وإن شيئا لم يبق من أعماله وأعمال زملائه من المفكرين الذين شخصوا أمراض المجتمع العربى وقدموا «روشتة» علاجها دون جدوى.
لا أعلم.. هل أصدق تشاؤم جورج طرابيشى الذى ينضح من مقاله الأخير، أم أتمسك بالتفاؤل الذى أشاعته كتاباته فى حياتى وحياة الآلاف غيرى ممن تربوا على قراءته والتعلم منه واستلهام بصيرته واجتهاده؟