الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ست الحبايب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعترف بأننى كففت عن حبها منذ زمن، لأنها تحولت من مصدر بهجة وفرح إلى مصدر ثقيل الوطء من الألم «القراح»، ناهيك عن تحولها لحالة شجن شفيف يمسك بتلابيب الروح ويصعد بها درجات التنائى عن الواقع، فتفصلنى عنه مدفوعا بقطرات الدمع الحبيسة فى أضلعى فأكاد أعزل نفسى الخفية عن تلك المعلنة ليفسح الحزن عزلته ويمارس معى لعبة التناهى والخروج عن الوقت الراهن ليلقى بى فى غيابة جب الذكريات المليء بالأصداف والقواقع على شاطئ بحر وسيع لا يحده حد، تحاصر سماءه الواسعة غيوم ملبدة باللون الرمادى الذى يحبل بالماء الذى جعل الخالق منه كل شيء حى.
فى مثل حالتى يصعب للغاية أن أسعى إليها سعى الباحث لأنها لو «وجدتنى» لأمسكت بروحى، فما بال ما قد تفعله بى لو بحثت عنها بنفسى، وأعترف بأنى حاولت مرارا الانعتاق من «سرها الباتع» الذى احتل مسافة لا «بأس» بها من حقول ذاتى وآذانى كثيرا ثم ألقانى برا وبحرا وجوا لكى أتماوه وحيدا مستسلما للعماء الذى تسيجه أبعاد لا مرئية غادرة، تلقى بالنار المتوجهة على طريق أمشى عليها عارى القدمين، ثم يلسعنى خواء الروح وهى تتجول فى اللامكان بعد أن ألقاها الحزن الثقيل على عتبات بيتى.
أعترف الآن أنى ما عدت بقادر على تحملها والانصياع لرغبتها السادية فى إغوائى بالحزن، حتى لو جاء فى غلالة حريرية تكشف تضاريس الجسد الأنثوى وتمعن فى ثرائه الذى جبل عليه إغراء الذكور بفتنة أنوثية طاغية تستطيع تحريك كوامن الرغبة وتقودها عمياء ملتهبة إلى حيث تقضى وطرها المرسوم.
فعلا ما عدت أحتمل أن أسمعها ثانية لأننى عرفتها ملتهبة ساخنة مجهدة منذ غادرت أمى إلى دار الحق، وكنت غائبا خارج الوقت والوطن فلم أكن بجوارها على حافة سريرها الذى سكنته زواحف الوحشة وأمواه بحر الظلمات، فعلا ما عدت بمستطيع أن أستمع إلى أغنية «ست الحبايب» باختيار وطواعية، لأنها تنحاز للحزن الثخين ببراعة القانطين من الرحمة، وأصبحت تلقينى فى صحراوات لا نهائية من الحزن الوسيع، بعد أن كانت مصدر بهجتى وأنا أطوق رقبة أمى فى عيدها السنوى بسلسلة من الذهب أو عقد من الياسمين الذى كانت تحب رحيقه وملمسه، وبعد أن أنفلت من دفء أمومتها إلى غربة الموانئ حيث «رمانى» مكتب التنسيق للقبول بالجامعات إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية ولم أتخط وقتذاك الثمانية عشر عاما لأحمل تاجى الشوكى على جبهتى مبتعدا عن «أول منزل» ومفتتحا فى روحى طابقا للحنين، وحاملا همى وحدى فى المأكل والملبس والمرض المفاجئ، وكانت الغربة مفتاح معرفتى بعظمة الأمومة وحنانها الذى يشبه نهرا بلا ضفاف وجنة عرضها السموات والأرض.
أصبحت الأغنية التى كتبت ولحنت وتغنت بها مطربتها الشهيرة فى يوم واحد بالنسبة لى بمثابة نشيد المارسيليز للفرنسيين، والذى أصبح أعظم نشيد وطنى فى العالم بعد ثورة ١٧٩٢، ومنذ كتبها الشاعر الكبير حسين السيد على باب منزل أمه عوضا عن الهدية التى نسى شراءها تلك الليلة قائلا: «ست الحبايب يا حبيبة يا أغلى من روحى ودمى، يا حنينة وكلك طيبة يا رب يخليك يا أمى ست الحبايب يا حبيبة، أنام وتسهرى وتباتى تفكرى، وتصحى من الأدان وتقومى تشقرى، يا رب يخليك يا أمى يا ست الحبايب يا حبيبة يا حبيبة، بتحسى بفرحتى قبل الهنا بسنة وتحسى بشكوتى من قبل ما أحس أنا، يا رب يخليكى يا أمى يا ست الحبايب يا حبيبة، لو عشت طول عمرى أوفى جمايلك الغالية عليا، أجيب منين عمر يكفى وألاقى فين أغلى هدية».
ثم طرق حسين السيد باب الشقة وفتحت له والدته وبدأ يسمعها كلمات الأغنية ففرحت بها للغاية، ثم وعدها على الفور بأنها سوف تسمعها فى اليوم التالى فى الإذاعة المصرية بصوت غنائى جميل، وقال السيد هذا بشكل عفوى دون أن يعرف كيف سيفى بهذا الوعد.
ثم اتصل السيد على الفور بالموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب وأعطاه كلمات الأغنية على التليفون، فأعجب عبدالوهاب كثيرا بكلماتها وكان بدوره يحب أمه كثيرا، فقام بتلحينها فى بضع دقائق ثم اتصل بالمطربة فايزة أحمد لتحضر عنده وأسمعها الأغنية وتدربت عليها وحفظتها، وفى صباح اليوم التالى ٢١ مارس ذكرى عيد الأم غناها فى البداية محمد عبدالوهاب على العود فقط، ومع نهاية اليوم كانت فايزة أحمد قد غنتها فى الإذاعة بالتوزيع الموسيقى، وبذلك أوفى حسين السيد وعده لوالدته، وربما كانت العفوية والصدق اللذان يملآن الأغنية هما سر نجاحها لأكثر من ٥٠ عاما والتى تحتفل بيوبيلها الذهبى هذا العام كأهم الأغانى عن «الأم» على الإطلاق.