مات البابا شنودة فى الوقت المناسب تمامًا، ١٧ مارس ٢٠١٢.. لو عاش أكثر من ذلك لاهتزت أسطورته، فرغم أنه كان عاشقًا للقلق، يهوى المعارك، وإن لم يجدها افتعلها، إلا أن حالة السيولة السياسية التى عاشتها مصر بعد ثورة ٢٥ يناير لم تكن لتناسبه على الإطلاق.
فى ٢٥ يناير وقف البابا شنودة موقف رجل الدين التقليدى، الذى ارتبط ولسنوات طويلة بنظام حكم بعينه، سانده ولم يتخل عنه رغم ما بينهما من أزمات، رفض الخروج عليه، وهو ما جعل شباب الأقباط ينفضون عنه، غير مبالين بما له من قدر ومكان ومكانة.
لم تكن الأيام رحيمة بالبابا شنودة، ففى شهور مرضه الأخيرة، اضطر إلى أن يستقبل مرشد جماعة الإخوان محمد بديع، لن أتحدث عما كان فى نيته ولا فى ضميره، وهل كان سعيدًا بما فعله، أي أنه لم يرغب فى رد رأس قوة سياسية جديدة كانت تتشكل فى مصر، ولكنى واثق من أن البابا لم يكن مرتاحًا لمثل هذا اللقاء، فالإخوان لم يكونوا يومًا منصفين مع الأقباط ولن يكونوا أبدًا.
غضب من غضب من لقاء البابا والمرشد، لكن الأنبا شنودة لم يكن فى أيامه الأخيرة يعبأ كثيرًا بما يحدث حوله، فقد كان على يقين أنه عاش ربما أكثر مما ينبغى، وأن تقلبات السياسة الجديدة، ستضعه فى اختبارات لن يكون على قدرها ولا بمستوى تحديها، ولذلك كان الموت هو الحدث الأنسب للبابا الذى عانى من المرض كثيرًا، إلا أنه كان يتحامل على نفسه، ويخوض معاركه مع الحياة دون تعب وتراجع.
تقلبت الكنيسة بين يدى الأنبا باخوميوس الذى قام بدور قائمقام البابا، ومنه إلى الأنبا تواضروس الذى جاءت به القرعة الإلهية بابا للأقباط فى ظرف سياسى هو الأصعب ليس على الأقباط فقط، ولكن على الوطن كله.
صعد الأنبا تواضروس على كرسى البطريركية فى نوفمبر ٢٠١٢، بعد ما يقرب من أربعة شهور على صعود الإخوانى محمد مرسى إلى كرسى الرئاسة، لم يكن البابا الجديد سعيدًا بحكم الإخوان، سمعت منه ذلك على هامش حوار تليفزيونى كنا نسجله معه، لكنه كان مهذبًا عندما تحدث، لم يمدح، لكنه لم يفصح صراحة عن مخاوفه.
لم يدخل البابا تواضروس فى صراع من أى نوع مع الإخوان، وحتى عندما تعرضت الكنيسة الأم لاعتداء هو الأول فى التاريخ، لم يستغث به الأقباط، بل هتفوا طالبين العون والمساعدة والمدد من قائد الجيش عبدالفتاح السيسى، وربما كان هذا هو أول نداء يسمعه وزير الدفاع: انزل يا سيسى... وهو النداء البشارة، الذى انفتحت بعده بوابات الثورة، فقد اقتنع المصريون أن الإخوان ليسوا قدرًا محتومًا، وأن هناك من سيساندهم إذا ما ثاروا.
وقف البابا تواضروس ومن ورائه الأقباط وقفة وطنية، فقد شعروا أن الهوية المصرية فى خطر، ولخص البابا الموقف كله فى عبارة بليغة بعد أن حرق الإخوان الكنائس فى أعقاب ٣ يوليو، قال: «نصلى فى وطن بلا كنائس، أفضل كثيرًا من أن نصلى فى كنائس بلا وطن».
وضعته هذه الكلمة على طريق الحكمة التى كان ينطق بها الآباء الكبار، لكن التجربة بعد ذلك كانت تقول إن البابا الجديد لا يزال أمامه الكثير، حتى يحتل الساحة والمساحة التى كان يشغلها البابا شنودة.
هل يشعر الأقباط بحنين إلى عصر البابا شنودة؟
أعتقد أن حالة الاحتفاء بذكراه على شبكات التواصل الاجتماعى، ومن خلال الكتابات الكثيرة التى سجل أصحابها مواقف لهم معه تشير إلي أن هناك حالة من الافتقاد له، ربما لأن شعب الكنيسة كان يشعر بشىء من القوة فى وجوده، وربما لأن الكنيسة على يديه كانت تلعب دورًا أكبر من دورها الحالى.
لماذا لا نقترب من الصورة أكثر؟.
قبل أيام من حلول ذكرى البابا شنودة، تفجرت مرة أخرى أزمة دير وادى الريان، لست فى محل ذكر تفاصيلها هنا، هى باختصار نزاع بين الدولة ورهبان الدير، كل طرف يؤكد أن الأرض تخصه، وأنها من حقه، تدخل مسئولون كثيرون، لكن المشكلة لم تنته.
استيقظ الأقباط على خبر القبض على الأب بولس الريانى المتحدث باسم رهبان وادى الريان، قالوا إن مجهولين قاموا باختطافه، وقالوا إن الأمن ألقى القبض عليه لسابق اتهامه فى عدة قضايا نصب، وقالوا إن الرهبان من زملائه هم من سلموه إلى الأجهزة الأمنية، لأنه أصبح عبئًا عليهم.
انتظر الأقباط موقفًا من الكنيسة، تحدث البابا، فألقى باللوم على بولس الريانى ورفاقه، فالأرض ملك للدولة، ولا يمكن أن يعتدى عليها الرهبان، من الناحية القانونية البابا يقف موقفًا محترمًا، فهو يحترم الدولة التى يعيش فيها، لكن من الناحية السياسية والنفسية، يعتبر كثيرون من الأقباط أن البابا خذلهم، وبدأت حركات قبطية عديدة تدشن حركات تطالب الرئيس عبدالفتاح السيسى بالإفراج عن الأب الذى وصفوه بأنه مناضل، فى إشارة إلى أن الحق كل الحق معه.
هذه القضية مثل غيرها من القضايا الأفضل أن يعمل فيها القانون، لكنها تكشف من بين ما تكشف، أن الأقباط لا يزالون يعيشون فى صيغة اخترعها البابا شنودة، وهى صيغة كانت تخاصم المواطنة، فقد جعل من نفسه رئيسًا للأقباط فى مقابلة الرئيس الذى يحكم المسلمين، ولذلك لم يكن غريبا أبدا أن يذهب الأقباط إلى الكاتدارئية عندما تحاصرهم أزمة، ولا يذهبون إلى الأجهزة الأمنية التى من المفترض أنها جهة الاختصاص.
ليس فيما أقوله ذم للبابا شنودة، فحتى لو وجهت له انتقادا فإننى أفعل ذلك من باب التقييم لتجربة فى الحياة السياسية المصرية، كانت لها ملامحها الخاصة، فقد انتقدته وهو حى يرزق، وذهبت بسبب ما كتبته عنه إلى النيابة أكثر من مرة، ولذلك فما أفعله هنا ليس نبشًا فى قبور من ماتوا، ولكنه محاولة للفهم فقط.
لم يكن البابا شنودة مجرد بابا فى تاريخ الكنيسة، ولكنه تحول إلى أسطورة، وهى الأسطورة التى لم تخرج للنور بسبب روحانيته، أو معجزاته وكراماته، فالجانب الروحى لدى البابا شنودة كان متراجعًا تمامًا أمام الجانب السياسى، الذى صنع من خلاله مجده، لقد حاول أن يحافظ على الكنيسة فى مواجهة الدولة، وهو ما سبب توترًا مستمرًا ودائمًا، بل جعل الرئيس مبارك تقريبًا لا يدخل الكنيسة فى أى مناسبة رسمية، على عكس ما حدث من الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى دخل الكنيسة فى عيدين متتاليين، ووقف على المنصة ليوجه حديثًا مباشرًا إلى المصريين جميعًا من بيت الرب.
يمكنك أن تتحدث كثيرًا عن حكمة البابا شنودة، وهى الحكمة التى اكتسبها من طول العمر وكثرة التجارب، يمكنك أن تتحدث عن دوره فى نهضة الكنيسة وتطورها وتوسعها واستثماراتها، يمكنك أن تتحدث عن حالة الحماية الكبرى التى وضعها على رؤوس الأقباط، وهى أشياء كثيرة تجعله معبودًا لدى قطاعات كثيرة من شعبه، لكنك لن تستطيع أبدًا أن تضعه فى قائمة من عملوا من أجل إعلاء قيمة المواطنة، وربما تلتمس له العذر كاملًا، وتقول مثلًا إنه كان يعرف أن من أمامه فى أجهزة الدولة المختلفة لن يعملوا من أجل إعلاء قيمة المواطنة، فلماذا يتحمل هو عناء العمل وحده؟.
كتاب البابا شنودة كبير وحافل بما يزعجك وبما يسعدك، وأعتقد أن أحدًا لم يهتم لا من المسلمين ولا من الأقباط بأن يتعامل بجدية كافية مع تجربة هذا الرجل فى الكنيسة والسياسة، إنه ـ شئنا أم أبينا ـ جزء من التاريخ المصرى، التاريخ بما فيه من إيجابيات وسلبيات، بما فيه من تفاهمات وصفقات، ولو تصدى باحث منصف لتاريخ هذا الرجل، فيمكن أن يكشف جوانب كثيرة من إدارة الحياة السياسية فى مصر فى الخمسين عاما الماضية، فما زال التاريخ غامضًا ومراوغًا، وفى حاجة لمن يفحصه جيدًا من أجل الحقيقة وحدها.
قد يكون البابا ظلم بعض الشىء عندما مات بعد ثورة ٢٥ يناير ـ رغم أننى أعيد التأكيد على أنه مات فى الوقت المناسب ـ فمن ماتوا بعدها، ماتوا فى وقت لا قيمة فيه لأحد ولا لشىء، الأجيال الجديدة التى يغلب أداؤها وتتحكم أفكارها فى المزاج العام، لا تعطى لأحد قيمته، تتعامل مع الجميع على أنهم لا شىء، كان يمكن أن يأخذ البابا شنودة نصيبًا من الحفاوة أكثر مما حصل عليه، لكن الأقدار لم تكن رحيمة به، فأنهت تجربته فى مرحلة تحول كاملة تعيشها مصر، وربما تأتى كل مناسبة لذكراه بشكل باهت جدًا، تشعر فيها ببعض من الحنين لأيام مجده وقوته وعنفوانه، لكنه الحنين الذى سرعان ما يتبدد، لا لشىء إلا لأننا جميعًا نبحث عن صيغة جديدة للحياة فى مصر، مسلمين وأقباطًا سواء بسواء، لأن كل الصيغ بارت وخربت ولم تعد مجدية.