الإثنين 18 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"فنكوش" التمويل الأجنبي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قضية التمويل الأجنبى التى تم فتحها من جديد، تعد من الغرائب والعجائب بمنتهى الصراحة.. فإن القضية ترجع الى عام ٢٠١٠.. وأذكر وقتها أننى كنت أجلس مع مسئول كبير فى دولة مبارك.. وقال لى «إن هناك تضييقا كبيرا منتظرا، سوف يتم على كل العاملين فى مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدنى.. وقال بالحرف الواحد «ح يتلموا كلهم قريب» وإن قضية كبيرة سيعلن عنها وستقضى الدولة عليهم تماما.. ولكنى لا أعرف متى يحدث ذلك تحديدا لكنه اقترب».
أى أن هذه القضية تم الترتيب لها منذ كثير ومن قبل ثورة يناير، وبتخطيط من نظام مبارك، وفهمت وقتها منه أن ذلك كله سيحدث قبيل تولى «جمال مبارك» الرئاسة.. حتى تخرس جميع الألسنة، خاصة أن هؤلاء وأقصد هنا المشتغلين بالعمل الحقوقى، هم من وجهة نظر الدولة من يشعلون الأمور فى مصر ويشحنون الشعب ضد الدولة والحكومة، فيجب التخلص منهم قبل أى شيء.
وقامت ثورة يناير.. وتم فتح القضية بعدها والتى مرت بمراحل عدة حتى وصلت إلى ما يحدث الآن واتخذها أعداء الثورة ذريعة لتشويه ثورة يناير، وعبر هذه المراحل تبين أن الدولة تلعب بورقة هذه القضية وقت اللزوم.. أى أنها تتجاهلها عن عمد وتفتحها من جديد عند الحاجة لعمل دوشة ما للتغطية على أمر ما، أو عندما تريد الرد على المجتمع الدولى مثلًا أو للتعبير عن اتجاه ما للدولة أو لأى سبب.. وهو ما يبدو بوضوح لمن يتابع سير القضية.. حيث يرى خبراء القانون والمتخصصون أنها قضية «فنكوش».
ويبدو أيضا أن منظمات حقوق الإنسان تشكل صداعًا للمسئولين فى مصر فى كل زمان.. مما يقول إنهم يريدون القضاء على العمل الحقوقى والمعارضة وكل صوت مخالف، فى خطوة شديدة الخطورة على الحياة الديمقراطية والحرية، والتى كانت من أهم أهداف ثورتين غاليتين.. تريد الدولة إسكات كل الأصوات التى تنتقد النظام وأعوانه، فلا أحد يتحدث عن أحوال العمال وحقوق المواطنين وكرامة الناس التى تهان فى أقسام الشرطة بشكل مستمر.
والغريب أن الدولة التى تخشى الجمعيات الأهلية إلى هذا الحد تفرض رقابة صارمة على عمل هذه الجمعيات وعلى الأموال التى تأتى لها، وتحصل الضرائب على كل مليم يرد إليها، كما تراقب مشروعاتها وتدريباتها من خلال أمن الدولة، ولا توجد أى جمعية تعمل دون الحصول على الموافقات الأمنية والسياسية بمختلف أنواعها، كما أن أموال الجمعيات تمر عبر البنوك المصرية ونشاطاتها تقام فى الفنادق المصرية على مرأى ومسمع من الجميع.. وإذا نظرنا لمسألة التمويل سنجد أن الدولة نفسها عبر الجهات الرسمية تتلقى هى الأخرى «تمويلًا».. وكانت كل المؤسسات المسئول عنها «جمال مبارك» وكذلك «سوزان مبارك» تتلقى تمويلات خارجية بمبالغ ضخمة، والدولة نفسها الآن تتلقى أيضا تمويلات خارجية، وطبعا سيكون الرد أن هذه تمويلات تدخل بطرق مشروعة، ولكن التمويلات التى تتلقاها المنظمات الحقوقية أيضا تأتى بطرق مشروعة لأنهم لا يسرقون أحدا ولا ينصبون على أحد.. طبعا قد يكون بعضها يتلقى التمويل للعمل فى غير صالح البلاد، والدولة قادرة على محاكمة هؤلاء إذا ثبت ذلك، ولكن أيضا توجد مؤسسات تتلقى التمويل لتدريب الشباب وتشغيلهم بدلًا من البطالة، أو على الاقل لا يتأذى أحد من تمويلها ولا تعمل ضد مصلحة الوطن.
عندما تم التفكير فى خلق هذه القضية، لم يذكر المسئول الذى جلست معه شيئا عن جماعة الإخوان المسلمين، التى تشتهر طول عمرها بتلقى التمويلات من الخارج، فقد كانت الدولة تتجاهل عن عمد تمويلات هذه الجماعة، حتى أصبحت قوة اقتصادية كبرى لا يستهان بها حتى يومنا هذا، لأنها كانت تعرف أن الإخوان داخل السياق يعملون مع نظام مبارك وليسوا ضده طالما يحقق لهم مصلحة يريدونها.
ولكن الغريب هذه المرة هو توقيت فتح القضية.. لأن مصر تعانى من سمعة سيئة للغاية على المستوى العالمى هذه الفترة فيما يخص حقوق الإنسان، وكان لواقعة مقتل الطالب الإيطالى أثر سلبى جدا على مصر فى هذا المجال، ولكن يبدو أن الدولة المصرية أرادت الرد على البرلمان الأوروبى الذى وجه تصريحات وتوصيات شديدة اللهجة لمصر بفتح هذه القضية، أى من باب العند.. ولكن للعند هذه المرة أثر أكثر سلبية ويعد غباء سياسيًا منقطع النظير، فهو يدعم السمعة السيئة أكثر، وطبعا تصريح «جون كيرى» وزير الخارجية الأمريكى بأنه «يشعر بقلق عميق بسبب تدهور حقوق الإنسان فى مصر بسبب فتح قضية منظمات المجتمع المدنى» يعد تصريحا خطيرا، ويعتبره السياسيون تدخلا فى السيادة المصرية وإهانة للدولة، مما دعا وزير الخارجية للرد عليه بأن مصر ترفض تصريحاته وترفض التدخل فى شئونها.. ولكن من باب أولى ألا تمس مصر نفسها حقوق الإنسان فيها، وأن تدعم المجتمع المدنى لا أن تقضى عليه.
ويبدو أن هذا الوطن ليس به عقلاء، لأنه حتى لو بمنطق المصلحة فقط، أو ما يعرف «بالبراجماتية»، لا بد أن يتم تجنب أى مساس بالمجتمع المدنى ومؤسسات حقوق الإنسان حاليًا، بسبب موجة الاتهامات الموجهة لمصر عالميًا فى هذا الشأن، بسبب حبس الصحفيين والأدباء وكذلك النشطاء السياسيين والمثقفين وأخيرا مقتل الطالب الإيطالى، كان لا بد أن تثبت مصر العكس، لا أن تؤكد التدهور وتبقى على فكرة القضاء على الحريات، ولكن طبعا واضح أن هذا البلد ليس به عاقل أو حكيم، رغم أن السياسة تتطلب مرونة وحكمة وليس عِندًا وتعنتًا.. ولكن واضح أن السياسة بعافية هذه الأيام.
منظمات المجتمع المدنى تتلقى تمويلات هذا صحيح.. مثلها مثل المنظمات الحكومية بالضبط والدولة كلها، ولكن فى نفس الوقت فإن عددا كبيرا من الشباب يعملون فيها من محامين لمترجمين لمحاسبين وغيرهم أيضا حتى عمال النظافة والبوفيه، وما يحدث الآن بعد التضييق عليها وخنقها وغلقها، أن هؤلاء ممن يعملون فيها جالسين على المقاهى يبحثون عن عمل، فى وقت تعج فيه البلد من البطالة والكساد وأزمات اقتصادية طاحنة، وكان من الحكمة أن تترك الدولة المنظمات تعمل مع وجود رقابة عليها، ومن يثبت أنه يتلقى دعمًا للإضرار بمصلحة البلاد أو يعمل ضدها بشكل ما، هو فقط الذى يحقق معه ويحاسب لأن التعميم هنا يفتح أبوابًا من المشاكل والأزمات نحن فى غنى عنها، فنحن لدينا فائض من المشاكل يمكن تصديره.. والتعميم فيه ظلم لقطاع كبير من العاملين فى هذا المجال لا يستحقونه.