لعل من أعجب العجائب في شأن "سيد قطب" بل والأعجب والأغرب من أمر "سيد" ذاته في الحقيقة، هم محبوه ومبغضوه على حد السواء، فبقدر ما كان "سيد" عجيبًا متطرفًا إلى أقصى التطرف في ذاته وأفكاره، بقدر ما كان كذلك أحباؤه وأعداؤه، ولكن الأغرب والأعجب من هذا كله أيضًا أن الفريقين على اختلاف ما بينهما في الحب والبغض لــ "سيد"، إلا أنهما لا يكاد أي منهما يدري عنه شيئًا صحيحًا مكتملًا بحيث تتكون لديه صورة واضحة لــ "سيد قطب" يستطيع من خلالها أن يتعرف شخصيته أو أن يسبر غوره، أو يفهم أحواله أو أن يستكشف ما كان يدور في مكنون ذاته!
فلا أعداء "سيد" ولا خصومه –في الغالب- يعرفون شيئًا كاملًا علميًا مدققًا عن حياته وتقلباته الحادة في آرائه وأفكاره، ولا عن تغيراته العجيبة، ولا عما حوته مراحل حياته المختلفة من تحولات وتغيرات بل وتناقضات، فلقد كان "سيد قطب" يتحول فجأة ومباشرة من النقيض إلى النقيض، من دون تفسير منه أو من غيره عن سبب تحوله عما تحول عنه، ولا عن سبب تحوله إلى ما تحول إليه!!
وإنما تجد كل طائفة من المختلفين حول "سيد قطب" تعرف شيئًا ما عن حياته أو تتغنى بمرحلة ما من مراحل حياته دون أن يكّون أحدهم الصورة الكاملة لحياته!
- فلا تجد أحدًا من هؤلاء ولا أولئك يعرف شيئا عن: "سيد قطب: العاشق"!، والذي كتب عن المرأة والعشق والهوى والحب العذري ما كتب!
- ولا أحد من مريديه وكذلك من كارهيه، يعرف شيئًا عن "سيد قطب: عدو المرأة"!، والذي حولته قصة حبه الفاشلة إلى كراهية المرأة وبغضها، وبُعْدِهِ عنها بل والعداوة التامة لها !
فقد جاء إلى القاهرة وهو شاب غض الأغصان، صعيدي منغلق فبهرته أضواء المدينة، وحين وقع في غرام فتاة قاهرية، تلاعبت به ثم فضلت غيره عليه، مما ترك في نفسه أبلغ الأثر، بل لقد أصابته الصدمة بعقدة نفسية كبرى لم يستطع تجاوزها طوال حياته، فحولته إلى إنسان عازف عن الزواج راغب عنه، مضرب عنه، بل لقد استعاض بــ "قطته الصغيرة" عن الأنثى، والتي كانت رفيقة أيامه، وظل مضربًا عن الزواج عدوًا للمرأة صديقًا للقطة! حتى مات.
- ولا أحد من مريديه أو كارهيه يكاد يعرف شيئًا عن "سيد قطب : المهووس بالغرب"! و لا شيئًا عن جنونه بالحياة الغربية و الأمريكية منها على وجه الخصوص! ، ولا شيئًا عن عشقه للحضارة الغربية، و لا عن فتنته بها بل و انسحاقه تحت أقدامها ولا عن احتقاره لأمته و تاريخها ، ولا أحد من هؤلاء و لا أولئك يعرف شيئًا عما كتبه "سيد" حول موسيقى الجاز وغيرها! وكيف كان حبه لها!
- و لا أحد من مريديه ولا كارهيه يعرف شيئًا عن "سيد قطب :المبشر"! و الذي طاف على الكثير من كنائس الغرب واشترك في نواديها ، و حضر أُمسياتها و حفلاتها و لا شيئًا عن تعلمه للوعظ من مبشريها.
- ولا أحد من مريديه أو كارهيه يعرف شيئًا عن "سيد قطب : البُوهيمي"! و الذي كان يدعو إلى الفوضى الجنسية و إلى شيوع الجنس بين البشر، و لا يعرف أحدهم شيئًا عن دعوته الخبيثة إلى تحويل مصر إلى "مستعمرة عراة" كبيرة !
- و كذلك لا أحد من مريديه و لا كارهيه يكاد يعرف شيئًا عن "سيد قطب :العلماني"! والذي كان يدعو إلى "فصل الدين عن الأدب"! ، و يدعو أيضًا إلى التحرر من كل قيد وشرط في الحياة ، و على رأس تلك القيود الدين و نصوصه!
بل لقد شن حملة ضروس على "الأدباء الإسلاميين"! والذين كانوا يحملون "راية القرآن" في الأدب و يدعون إلى التمسك بــ "اللغة القرآنية" و "الجملة القرآنية" في الأدب و الشعر ، فحاربهم "سيد" انتصارًا لشيخه في الأدب : الأستاذ "العقاد".
- بل لا يكاد أحدهم يعرف شيئًا عن "سيد قطب : الانقلابي"! و الذي امتلأت حياته بالتقلبات و الانقلابات بدأها بالانقلاب على والده ثم انتقل إلى الانقلاب على شيخه في الأدب "العقاد" ، و أدباء عصره ، ثم الانقلاب على الملك و محاباة رجال الثورة ثم الانقلاب على رجال الثورة أنفسهم وغير ذلك من الانقلابات الكثيرة و التي سوف تحويها ثنايا هذه المقالات -إن شاء الله- .
- و كذلك لا يعرف مريدوه أو كارهوه شيئًا عن "سيد قطب، المعقد نفسيًا"! و الذي حولته تصرفات والده غير المسئولة – من وجهة نظره! و على حد تعبيره - إلى طفلٍ معقد فاقد للثقة في والده بل وصل به الأمر إلى كراهية والده وبغضه وتحميله كل أسباب فشله و معاناته في الحياة ، حتى لقد حلت أمه من نفسه محل أبيه، و احتلت مكانته ، خاصة في موضع القدوة منه للدرجة التي جعلته يكتب يوم وفاة أمه : "اليوم مات أبي" !
- ولا يعرف هؤلاء و لا أولئك شيئًا –أو لا يكادون- عن: "سيد قطب المتسلط"! و الذي يعشق السيطرة على كل من حوله ، و التسلط والتجبر وفرض الرأي على كل من يعرفه ، حتى لقد حوَّل إخوته إلى نسخ مكررة منه حتى صنع منهم حزمة من الظلال لشخصيته أو صدى لصوته ، أو تكرارًا لكتاباته ، فاجتهد أشد الاجتهاد في محو شخصياتهم تمامًا و تحويلهم إلى مسوخ لا استقلال لهم!
- ولا يعرف أحدهم شيئًا عن: "سيد قطب: الخُرافي"! و الذي كان يخاف من العفاريت والجن وظلت تلك الهواجس التي علقت به منذ طفولته و مخاوفه من الجن والعفاريت تطارده حتى في يقظته ومنامه بعدما كبر و صار رجلًا و كهلًا بل وشيخًا! ، بل لقد ظلت كوابيس العفاريت تفزعه حتى مات ، على ما ذكره هو مما سوف نأتي على ذكره –إن شاء الله- .
- وكذلك لا يعرف الجميع شيئًا –أو لا يكادون- عن : "سيد قطب : الساحر"! و الذي كان يمارس السحر و هو بعدُ طفلًا صغيرًا يعيش في قريته الصغيرة في صعيد مصر .
- و لا يعرف مريدوه و لا كارهوه شيئًا عن : "سيد قطب :الملحد"! على حسب ما اعترف هو بنفسه لــ "المودودي" من أنه ظل على الإلحاد و الشك ما يزيد على عشر سنين من حياته !
- تفاصيل كثيرة و مفاجآت أكثر تأتي في ثنايا هذه السلسلة من المقالات تباعًا – إن شاء الله – حول شخصية من أكثر الشخصيات التي أثارت الجدل في هذا العصر ، نحاول فيها أن نلتزم الموضوعية قدر بشريتنا و قدر استطاعتنا ، ونحاول ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا أن نبتعد عن الهوى حبًا وبغضًا لنقدم المعلومة خالصة للقارئ من دون إجحاف لحقه أو تجنٍ عليه أو رفعه فوق ما يستحق.
فالحقيقة وحدها هي ضالتي وهي ما أنشده ، وأسأل الله أن يوفقني لبيانها بيانًا علميًا بعيدًا عن الهوى و التعصب، و أن يكون مقصودي هو الحق دون ما سواه – إن شاء الله تعالى- .
و في المقال القادم للحديث بقية ... إن شاء ربُّ البرية .