ومن بين الأبحاث التجديدية التى زخرت بها ندوة مكتبة الإسكندرية عن التطرف سنتابع أوراقًا مهمة لمجددين مصريين. ونبدأ بورقة للدكتور يسرى عبد الله بعنوان «تفكيك التطرف» ومع استمرار تحفظنا على استخدام لفظ «التطرف» الذى يمكن استخدامه إيجابا لوصف حالة من التدين الصحيح ولكنه مبالغ فى طقوسه، وسلبا كأداة للإرهاب المتأسلم فإننا نواصل مع هذه الورقة المهمة التى تبدأ عملية التفكيك بمحاولة «الوصول إلى جوهره المضطرب بغية الوصول إلى آليات ناجعة لمجابهته ومواجهة تغوله فى ظل سياق سياسي/ ثقافى لم يتخلص من الصيغ الرجراجة التي تجمع ما بين المتناحرات توفيقا وتأليفا لنصبح فى نهاية المطاف أمام تصورات تلفيقية للعالم يُرتكب تحت مظلتها الكثير من الكوارث»، ثم يواصل د. يسرى عبدالله «يبدو التطرف تعبيرا عن تصور يقينى للعالم يعتقد أصحابه أن فهمهم لمنطق الأمور وطبائع الأشياء هو وحده الصحيح. فهم يمتلكون الحقيقة.
ومن ثم فالعالم لديهم يدور فقط بين فكرتى الحق والباطل عبر بُعد عقائدى يترسخ من انطلاقهم من رؤى محددة سلفا، وهى قطعية الدلالة وتتمحور حول الفكرة الدينية التى تستدعى «المقدس» لتضعه فى مواجهة: الدنيوي.
وتسعى بذلك إلى خلق وعى زائف لدى الجماهير عبر الترهيب والترغيب والوعود التى لا تنتهى بدءا من الرخاء الأرضى على غرار شعار الجماعة الإرهابية «نحمل الخير لمصر» وصولا إلى مفاتيح الجنة وصكوكها التى تمنح وتمنع فى الفضائيات الدينية.
«وهذا الخطاب يضع البشر جميعا فى خانة الأتباع.. والشيخ هو السيد التى يتبعه التابع أينما كان ليصبح غنيمة لسيده فـ«داعش» مثلا تتفنن فى سبى النساء واغتصابهن وتظل الفكرة الأساسية كامنة فى استدعاء النص الدينى لتبرير كل الجرائم». ولأن العقل يستدعى فى خطابه السؤال والشك فهم ضده. وتفكيك التطرف يتطلب مراجعة الموروث عبر قراءة عقلانية، مستنيرة جديدة ونقدية.
وذلك بهدف الانحياز لدولة مدنية متخلصة من المزاوجة بين السياسى والدينى وتكرس لمشروع وطنى خلاق قادر على بلورة خطاب سياسي/ ثقافى جديد يقاوم هذه الفكرة ويعيد تجديد العقل العام عبر خيال منسجم مع اللحظة، وتأسيس خطاب تنويرى حقيقى يستند إلى جناحى الثقافة والتعليم، وينهى د. يسرى ورقته بالتحذير من «حالة الكسل العقلى التى تنتاب مؤسساتنا الثقافية والتعليمية والتى اعتادت على الالتزام بالطرق الآمنة فى التفكير والتصورات بما يبقينا وسيبقينا محلك سر، حيث يعتقد كثير من المسئولين الرسميين أن كل شيء عظيم طالما أن كل شيء هادئ.. وهذا هو عين المأساة.
ونأتى بعد ذلك إلى دراسة مهمة وأكاديمية للدكتور عمرو الشوبكى، عنوانها «الثابت والمتحول فى تجارب جماعات العنف المتطرفة»، ونلاحظ أن العنوان يتخلص من عمومية كلمة «التطرف» فلجأ إلى عبارة جماعات «العنف» المتطرفة. والورقة تقسم تاريخ حركات التأسلم الإرهابى إلى ثلاثة مراحل.
الأولى سماها «التنظيمات الجهادية الكبري: وهى جماعتا الجهاد والجماعة الإسلامية (التكفير والهجرة)، وفى بداية سبعينيات القرن الماضى خرج من جماعة الإخوان جيل تربى على كتابات سيد قطب، وخاصة كتابه الشهير «معالم فى الطريق» ويدعو إلى قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة وبناء نظام إسلامى بديل عنه. وكانت البداية على يدى شكرى مصطفى الذى أعلن تكفير الحكم والمجتمع معا ويقول «من كان يظن أن بناء المدنية الحديثة لا يتعارض مع العبادة وأنه كان من الممكن لعلماء الغرب وبناة المدن الحديثة أن يكونوا عبادا لله أيضا فإنه يشهد على نفسه بقلة الحياء وصفاقة الوجه، فهؤلاء هم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم». ويقدم شكرى دليله على ذلك فيقول «لقد بقى رسول الله ثلاثة عشر عاما فى مكة يعلم المسلمين الإسلام، ولا يعلمهم شيئا غير الإسلام لا فلكا ولا رياضيات ولا فلسفة ولا فيزياء فأين هذا من الدجالين الذين يزعمون أن الإسلام لن يقوم حتى يتتلمذ على علوم الأوروبيين». أما عبود الزمر (أحد قادة تنظيم الجهاد) وهو الذى خطط ونفذ عملية اغتيال السادات فهو ينتقد الحكام العرب، لأنهم نبذوا كتاب الله ورفعوا لواء الديمقراطية تارة أو نادوا بالعلمانية والوطنية والقومية والحياة النيابية والحرية الشخصية والتبرج والاختلاط. وفى «ميثاق العمل الإسلامي» (تنظيم الجهاد) حرب عاتية على العلمانية باعتبارها دعوة لفصل الدين عن الدولة عقيدة وفكرا ونظاما وحكما، وهكذا فإن هذه الأنظمة الجاهلية الكافرة تستبدل بشرع الله شرع الشيطان» ويلاحظ الشوبكى أن هذه التنظيمات امتلكت مشروعا عقائديا يكفر السلطة الحاكمة، لأنها لا تطبق شرع الله». ثم يقول عمرو الشوبكى إن الدولة استطاعت فى نهاية الأمر تفكيك هذه الجماعات»، ويلاحظ الشوبكى ملاحظة ذكية تقول: «إن انهيار هذه التنظيمات الكبرى يؤدى عادة إلى وجود حالة فراغ يفترض أن تملؤها قوى اجتماعية وسياسية أخرى قادرة على استقطاب أنصار هذه الجماعات أو التائبين من بقاياها.. لكن أحدا لم يفعل ذلك، وبالتالى بدأت من جديد مرحلة التحرك الفردى أو الخلايا الصغيرة التى قامت بعمليات مثل حادث طابا (٦ أكتوبر ٢٠٠٤) واعتداء الأزهر وميدان عبدالمنعم رياض ودهب، وأصبحت هذه العمليات نوعا من الانتقام الفردى أو الجماعى كحوادث انتقامية لا تحمل رؤية جماعية أو مشاريع عامة لتغيير المجتمع أو حتى إسقاط النظام السياسي.
أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة التنظيمات الإرهابية «المتعولمة» (ذلك أن الحرب الأفغانية ضد الوجود السوفيتى قد دفعت عددا من الحكام العرب سواء فى مصر أو السعودية أو باكستان وبلاد مشرقية عدة وبناء على ضغط أو ترتيب أمريكى إلى تشجيع الشباب المتحمس ذى النزعة الدينية للالتحاق «بالمجاهدين» الذين سلحتهم أمريكا بعتاد متطور وبعد خروج السوفييت تحولت هذه الجماعات إلى تنظيم أممى تمتد نشاطاته ومكوناته عالميا، وكان تنظيم القاعدة ثم من بعده داعش)، ونعود إلى ورقة د. الشوبكى التى تبرر اتساع نشاط هاتين الجماعتين «إلى تداخل عجز الداخل مع قهر الخارج»، ثم هو فى الختام يمايز بين الحركات الإرهابية فى القرن الماضى التى كانت تقوم على مرجعيات فقهية متأسلمة وخاطفة وبين داعش والقاعدة اليوم التى تتحرك عبر شعارات دينية سطحية تكتفى بإيجاد تبريرات مندفعة وحماسية لتبرير القتل والإرهاب.
وشكرا لدكتور يسرى ود. الشوبكى على جهدهما الفكرى الراقى وكل الشكر لمكتبة الإسكندرية التى استنبتت هذا المجهود الفكرى التجديدى والأكاديمى فى ساحتها.