السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لعنة "الأمير"..!!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مثل داء مقيت ومُعدٍ تسلل لمخادع الساسة، تسرب إلى دمائهم الحارة فأصبحت باردة وانتقلوا بفضله إلى فصيلة الأفاعى، أغراهم بالتحول والتغير، فأصبحوا ذوى جلود سميكة، لا يؤثر فيهم واجب إنسانى ولا تهزهم فضيلة، ولا يحركهم وازع من ضمير، فـ«الأمير» منذ صار هاجسهم أصبحوا ملك يمينه، وإليه يعودون «ليستقوا» منه الحكمة والموعظة الحسنة وأصبحوا فى حل من أخلاق الفرسان التى كانت تحكم العلاقات بين الناس، بل أصبحوا عارا على بنى أوطانهم، إذ إنهم وببركات الأمير أصيبوا بالحول فرأوا الأعداء أصدقاء، ووقعوا معهم معاهدات سلام وإخاء وتطبيع، رغم أن القاصى والدانى يعرفون أنهم يعادون بالفطرة ويسرقون الأوطان بالتعاليم الدينية رغم أنها تعاليم غير إلهية، ويقتلون الرضع ويستحيون النساء ويطعنون الشيوخ ويقطعون الأشجار المثمرة ويدمرون المدائن العامرة على رؤوس أهليها ويمارسون الهمجية على الجميع دون رادع.
وبفضل إغراءات «الأمير» أصبح الحكام لصوصا كبارا، فاختلسوا مقدرات شعوبهم وحرموا الناس من خيرات بلادهم وأصبح كل شىء حقا خالصا لهم وفى يدهم، فهم «الرافعون الخافضون» لأقدار البشر، يرفعون من والاهم إلى الذرى، ويلقون بمن خالفهم ورفضهم وراء غياهب السجون أو الجنون أو البله، قبل أن يحاولوا الخلود عن طريق توريث الأوطان لأبنائهم، لكى يستمر سلسالهم فى مقعد الحكم الوثير وفى وراثة الأرض ومن عليها باعتبارهم «الوارثين» الوحيدين للأرض ومن عليها، وليس الفقراء الذين هم «ملح الأرض» الذين يعتبرهم خالقهم أنهم وارثوها.
وتلبية لرغبات «الأمير» أصبح كل شىء مباحا، وأصبح الوطن مختزلا فى شخص حاكمه، فهو الأول والآخر، وهو المانح والمانع، وهو المعطى والحارم، وهو الخافض والرافع، وهو المفرق والجامع، وهو علم العلوم ونبراس الفنون، والفاهم والواعى والمعز والمذل، وهو صوت الله فى الأرض لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو القائد الأعلى لكل شىء، وهو من عليه الناس يعتمدون فى رزقهم وما يشربون وهو كل شىء: منه تنبثق الأشياء وإليه تنتهى.
وبفضل «الأمير» تغيرت أخلاق الجميع، فلا الفرسان امتطوا الفروسية ولا الدهماء تقوقعوا فى جحورهم والجميع يسب الجميع والكل يقفز على أكتاف الكل وصولا إليه فى عليائه وهو ينظر إلى التصارع الدائر من تحته وعلى وجهه شبح ابتسامة وفى روحه تتحرك الأفاعى نافثة فى صدره سموم الغل من الجميع ليجلس فى النهاية مستريحا على عرش من عظام البشر.
وأفسد «الأمير» الحكام واتسخت به هموم الساسة، منذ ألفه نيكولو مكيافيللى سنة ١٥٥٣ أى منذ أكثر من ٤٥٠ عاما، ليفسد القرون وليصل للحكام سرا أو جهرا فى كل أصقاع الأرض بما فيها المنطقة العربية التى نفذ حكامها ولا يزالون ينفذون أسوأ ما فيه من وصايا وأردأ ما احتوى من تعاليم، وأصبح هذا الكتاب الصغير منذ ظهوره فى القرن السادس عشر مثار جدل كبير، كما أصبح مادة ضرورية لدراسة علم السياسة فى عصر النهضة، وعلى الرغم من كل ذلك استمر الجدل الحاد، والخلاف الكبير حول الكتاب.
ويرى مكيافيللى أن الطبيعة البشرية شريرة، وتـُقدم بعض العوامل الثابتة، وهى العاطفة والفضيلة والقدر، يـُظهر الاستخدام المتكرر للفضيلة المثالية من التاريخ القديم ومن تجربته بالسياسة الحديثة أنه ليس هناك انقسام واضح بين العالمين القديم والحديث فى تحليله التاريخى، هكذا يستخلص مكيافيللى قوانين عامة من درس التاريخ، ولكنها لا تـُفهم كقاعدة معصومة صالحة فى كل مقام ووضع، إنما ميول بسيطة تـُوجـّـه أفعال الأمير الذى يتوجب عليه دائما التعامل مع الاحتكاك بالواقع، ولا توجد أى تجربة خانها الماضى لا يمكن تكذيبها من خلال تجربة جديدة حاضرة ويـُفـَسـّر افتقار العلمية عدم خضوع مكيافيللى لسلطة القدماء: تبجيله ولكن ليس الامتثال له، واستخدم الأمثلة التاريخية للحُجـّة، لكنها ليست العلمية بل الخطابية.
ولدى مكيافيللى يتغير معنى كلمة الفضيلة بأنها مجموعة الخبرات التى يحتاجها الأمير للتعامل مع القدر، أى الأحداث الخارجية، وبالتالى يرى أن الفضيلة هى خليط من الطاقة والذكاء، فعلى الأمير أن يكون ذكيا وكذلك كفئا وحيويا، وفضيلة الفرد والفرصة أى القدر يشتركان بالتبادل: تبقى مهارات السياسى مـُـعـَطـّلـَة إن لم يجد فرصة الملائمة للإفصاح عنها، وبالعكس تبقى الفرصة مـُعـَطّلةً لو أن السياسى الخـَلـُوق لم يـُـجـِد استغلالها، ويكفى أن تتكيف الفضيلة البشرية مع القدر من خلال القدرة على التنبؤ، والحسابات الدقيقة، وفى لحظات الهدوء لا بد أن يتوقع السياسى الماهر المستقبل معكوسا، ويتخذ ما يلزم تماما، كما يتم فى بناء هوامش الأنهار لاحتوائها بالكامل.
وقد اعتبره علماء الأخلاق وخاصة فى بريطانيا وفرنسا كتابًا مناسبًا فقط «للطغاة الأشرار»، وهو ما أصاب حكامنا العرب فى العصر الحديث باللعنة، وجعلهم بالتالى لعنة على الجميع.. ولتر ذلك انظر حولك.