تميز فيلم «باب الوداع» فى الدورتين الأخيرتين لمهرجان جمعية الفيلم، حيث فاز بعدة جوائز بينها أحسن فيلم وأحسن إخراج، وفى مهرجان المركز الكاثوليكى المصرى للسينما حيث فاز بعدة جوائز بينها جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأحسن فيلم.
«باب الوداع» إخراج وتأليف كريم حفنى، وهو فيلمه الروائى الطويل الأول، ليس فيلمًا عاديًا، بل هو من «السينما الاستثنائية» إذا جاز التعبير، وكما أن فى فن الأدب نثرًا وشعرًا، فإن فى فن السينما نثرًا وشعرًا، وفيلم «باب الوداع» من أفلام قليلة فى مصر والعالم ينتمى إلى الشعر، على أن ما يجعله أيضًا تجربة أكثر خصوصية أنه جاء قصيدة فى السينما تعادل أكثر تجارب الشعرية فى الأدب حداثة وطليعية أو «تجريبية»، ومن ثم فإن فيلم «باب الوداع» بقدر ما يحفل بجماليات رحبة وإمتاع فنى من نوع خاص وراق، فإنه فى ذات الوقت لا يخلو من صعوبة وغموض، مصدرهما التكثيف، وهو طبيعة كل شعر، لكنه هنا تكثيف عال هائل، وسببهما انتماء الشعر هنا إلى مدرسة فى الحداثة تتسم بطبيعتها بكثير من الغموض.. بعباراة أخرى وأمثلة، فإننا فى «باب الوداع» لسنا إزاء معادل مصرى تقنى سينمائى لشعر عبدالصبور وحجازى والبياتى وأمل دنقل، ولا قطعًا شعر نزار بنطاقه وجماهيرته، وإنما شعر أدونيس وعفيفى مطر ومدرسة السبعينيات فى مصر ومدرسة قصيدة النثر الحالية.
وفيلم «باب الوداع» كشأن هذه النماذج الأخيرة، عابر ومحلق عاليًا، ولا نقول مترفعًا، بل بعيدًا أو متباعدًا عن قضايانا الاجتماعية الحاضرة الضاغطة والسياسية المثارة أو الجاثمة، ومحاولًا سبر أغوار قضايا ميتافيزيقية، وما يعد قضايا إنسانية وكونية كلية مؤرقة (للمتأملين.. المتألمين فى الأرض!)، ما بين قضايا الحياة والموت، والحرية والقمع، والمصير والوجود.
وهذه تحديدًا هى القضايا التى يعالجها فيلم «باب الوداع»، لكن الصعوبة أو الغموض فى الفيلم لا تكمن أو تنبع من مناقشة هذه القضايا، وإنما من معالجتها وطريقة تأملها.. والتألم والشجن والحنين فى شأنها، وما يذرف، أو ينزف فى ظلها وتحت وطأتها.
إن فن السينما، ناقش مرارًا قضايا وجودية وفلسفية، وفى كل العالم وعلى مر عصوره ومغامراته.. ولم يقل شأنًا فى هذا أبدًا عن فن الأدب: رواية أو أقصوصة أو قصيدة، لكن الأمر يختلف بالتأكيد إذا ما ناقش ذلك فى إطار إبداع واقعى، أو شعرية معهودة «مجربة».. أو إذا ما ناقشه فى إطار حداثى أو شعرية متجاوزة «تجريبية»، وهذا الأخير حال «باب الوداع».
وبهذا الفيلم يوظف (الفنان المخرج الشاعر السينمائي) مختلف العناصر الفنية الإبداعية، من أجل تحقق قصيدته، بدءًا من السرد السينمائى ذى الطبيعة الخاصة، إلى الموسيقى والمؤثرات الصوتية المحسوبة بدقة وعناية واقتصاد، إلى ثقل الصمت والحوار القليل، إلى التمثيل والتصوير والمونتاج والديكور والمكياج.
ليس هذا الفيلم: قصة تروى.. أو دراما أجيال ترصد، ليس هو: قصة الجدة، والابنة وابنها.. أو دراما أجيال ترصد، والطفل بداخل هذا الفتى، يصاحبه أو يسبقه، ولا نماذج الأطفال الآخرين.. والبنايات «العجوز» التى تحاصر أبطالها، والمقابر وأمور تتناثر وتذكارات، الأشياء «التفصيلية» الصغيرة الوافرة فى كل مكان، من أولى لقطات الفيلم إلى آخر لقطاته.. لكن الفيلم: مشاهد تكافئ «مقاطع» فى القصائد، ويوظف كل ذلك، لتجسيد «حالة سينمائية»، وتأملات ومشاعر، أكثر من كونه يعبر عن «حكاية» أو حتى وجهة من النظر محددة متبلورة.
وكثيرًا ما نشعر ونحن أمام هذا (الفيلم/القصيدة)، أننا إزاء (الفيلم/حلم المنام) ومما لا يخلو من «كابوسية».. بقوانين ومعالجة تتجاوز الواقع والواقعية إلى الحلم أو الكابوس والفانتازيا.. لكن هذه مرة أخرى هى طبيعة «باب الوداع» وتجربته السينمائية الشعرية، وحيث التكثيف، والتركيب، عبر (صور/لقطات) متلاحقة.. أشبه أيضًا بالموسيقى الخالصة، وبإيقاع ما بين درجات من السرعة، ودرجات من البطء.. وكثير من الصمت.
ولهذا تظل تجربة «باب الوداع» من تجاربنا السينمائية المميزة.. ومن نوعية نادرة فى تراثنا وثروتنا فى عالم السينما. ويظل نموذجًا من «السينما الخالصة».. ومثالًا أخاذًا نابضًا بالحيوية والأصالة لهذه «السينما الاستثنائية».