من عجائب الساسة فى بلادنا حديثهم المتكرر ومطالباتهم الدائمة بضرورة وضع رؤية لمستقبل مصر، وانتقادهم للرئيس والحكومة بسبب غياب تلك الرؤية، بينما لم نجد أحدهم يتطوع لتقديم ولو ملامح رئيسية لرؤية شاملة تصيغ مستقبل البلاد والعباد، ولم يخرج علينا حزب سياسى أو ائتلاف ثورى بمبادرة تضع استراتيجية متكاملة بما لديها من خبراء وفقهاء وعلماء يملأون الشاشات والصحف باقتراحاتهم وأفكارهم.
لو حدث ذلك وطرحت مثل تلك الرؤى للنقاش العام لتحرك ماء السياسة التى يشكوا الساسة من ركودها بل وجفافها، ذلك أن الحكومة كانت ستجد نفسها أحد أطراف هذا النقاش، الذى كان سيجمع أطرافًا عديدة فى المجتمع، وربما ساعد ذلك فى فرض أجندة قضايا جادة على الإعلام بدلًا من انشغاله بحكايات الجن وتخاريف العلاج الروحاني وتحولها لزقاق يجتمع فيه الشتامون والسبابون واللعانون.
الرئيس فاجأ الجميع فى خطابة الأخير وكشف النقاب عن قيام الدولة بإعداد وصياغة استراتيجية شاملة حتى عام ٢٠٣٠، ورغم أنها شهدت مراحل تحضيرية متعددة وعشرات الندوات والحلقات النقاشية إلا أن ذلك كله تم دون علم أحد، غير المشاركين فى إعدادها، وكنت أتمنى لو شارك فيها مفكرون ومثقفون ورؤساء أحزاب لتحظى بتوافق الجميع ليس فقط على الغاية منها، وإنما أيضا حول الآليات والخطوات التنفيذية لتحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها. ومع ذلك توقعت أن تبادر الأحزاب إلى دراسة تلك الاستراتيجية ووضع رؤية نقدية لها أو لبعض محاورها بهدف تحسينها، والأهم الدخول فى حوار حيوى وبناء مع الحكومة حولها لأنها شملت جميع المجالات وهو الحوار الذى من شأنه فتح المجال العام للسياسة والثقافة، إلا أن أحدًا لم يهتم ولو بإصدار بيان يرفض الاستراتيجية جملة وتفصيلا، كما لم تلق اهتمامًا يذكر من معظم برامج التوك شو.
ولا أجد تفسيرًا لهذا التجاهل المتعمد سوى أن هذه النخبة ليست جادة فى كل ما تقوله أو تفعله، وأنها لا تسعى سوى لمصالح ضيقة، وأن جانبا منها يحاول طوال الوقت خلق مسافة كاذبة بينه وبين النظام يدعى من خلالها الاستقلال والحياد أو المعارضة الزائفة.
بقى أن تمضى الدولة نحو هدفها الأكبر وهو الوصول لغايات وأهداف استراتيجية مصر ٢٠٣٠، إن كانت جادة فيما طرحته، ولم تقصد مجرد الشو السياسى والإعلامي، لا سيما أن غياب المثقفين والأحزاب عن فريق الإعداد يضفى ظلالًا من الشكوك حول صدق النوايا.
وليس من سبيل لإثبات جدية الدولة سوى أن يتضمن برنامج عمل الحكومة، الذى سيطرحه المهندس شريف إسماعيل على مجلس النواب ٢٧ مارس المقبل، آليات وخطوات تنفيذية واضحة لمواجهة التحديات والعراقيل الخاصة بكل محور من محاور الاستراتيجية، وأن يقدم البيان شرحًا تفصيليًا لكيفية البدء فى تحقيق أهداف الاستراتيجية خلال العام المقبل، كما ينبغى أن يشتمل البرنامج على المنهج الذى تتبناه الحكومة للوصول لأهداف الاستراتيجية مرحليًا عامًا بعام.
وأظن أن الحكومة قادرة على تقديم هذه الرؤية التنفيذية لا سيما أن أحد المراجع أو المصادر التى استعان بها فريق العمل، من خطط واستراتيجيات وضعتها أجهزة وهيئات الحكومة ذاتها، منها على سبيل المثال مركز معلومات دعم واتخاذ القرار، هيئة الاستثمار، وزارة الإسكان، علاوة على أن وزارة التخطيط والمتابعة هى من أشرفت على جميع مراحل إعداد وصياغة الاستراتيجية.
وفى المقابل على مجلس النواب مذاكرة جميع محاور الاستراتيجية جيدا قبل الاستماع إلى بيان الحكومة، ثم مراجعة البيان ومدى صلاحيته لتحقيق أهداف وغايات الاستراتيجية، وتقييمه فى هذا الإطار، حتى يتمكن من وضع معايير الرقابة والمحاسبة التى سيستخدمها لمراقبة أداء الحكومة وليصحح لنا الصورة التى ظهر بها فى أول شهرين من عمره.