مازلنا نحاول البحث عن حقيقة جماعة الإخوان من الناحية الاعتقادية، ويبدو أن اتساع دائرتها يزيد من نقاط التماس مع كل الفرق والمذاهب، التي ابتعد أهلها عن منهج الصحابة والتابعين في فهم نصوص الشرع، فقد رأينا اشتراك الجماعة مع كل من الخوارج والمرجئة والشيعة والمتكلمين، وبينا أوجه التشابه بينها وبين المعتزلة والأشاعرة، ونواصل في هذه الحلقة البحث في الصلات الفكرية بين الإخوان والأشاعرة.
من المسلمات أن من يسلك طريقا ذا اتجاه واحد، دون التفكير في العودة ،لابد أن يصل إلى نهايته، وقد اختارت الجماعة طوعا لا كرها، طريق المتكلمين في معرفة الله وأسمائه وصفاته وقد أثبت العلماء أنها طريق محفوفة بالانحرافات العقدية المتراكمة، التي يُسّلم بعضها لبعض في سلسلة متتابعة، لا يقوي من سلكها عن التراجع عنها ، إلا إذا كان من أهل الهمم العالية والعزيمة القوية.
وقد رأينا كيف سلك حسن البنا هذه الطريق في معرفة أسماء الله تعالي وصفاته العلا بالمنهج نفسه الذي سار عليه المتكلمون، لإثبات وجود العالم أولا لكي يصل الي أن هناك خالقا لهذا الكون، وعلي هذا المنهج دخل في صفات الله تعالي بطريقة فلسفية كلامية، فوقع في التأويل والتفويض كما حدث من الاشاعرة، ونواصل في هذه الحلقة البحث في تلك السلسلة المتتابعة التي سلكها البنا في معرفة صفات الله تعالى.
يقول البنا تحت عنوان "الأدلة العقلية والمنطقية على إثبات صفات الله تعالى:
"يعمد علماء العقائد إلى إثبات صفات الله تبارك وتعالى بأدلة عقلية ، وأقيسة منطقية ، ونحن نقول : إن ذلك حسن، لأن العقل أساس المعرفة، ومناط التكليف، وحتى لا يكون في نفس أحد أثر من آثار الشبهات والأباطيل.... ومع هذا فتتميما للفائدة نذكر بعض الأدلة العقلية الإجمالية والتفصيلية ، فنقول :
الدليل الأول : هذا الوجود الذي يدل بعظمته وإحكامه على وجود خالقه وعظمته وكماله.
الدليل الثاني : إن فاقد الشيء لا يعطيه ، فإذا لم يكن موجد الكون متصفا بصفات الكمال فكيف تكون آثار هذه الصفات في مخلوقاته .
الدليل الثالث : وهو خاص بأن هذا الخالق واحد لا يتعدد ، إن التعدد مدعاة للفساد والخلاف والعلو ولاسيما وشأن الألوهية الكبرياء والعظمة ، وأيضا فلو استقل أحد المتعددين بالتصرف تعطلت صفات الآخرين، ولو اشتركوا تعطلت بعض صفات كل منهم ، وتعطيل صفات الألوهية يتنافى مع جلالها وعظمتها ، فلابد أن يكون الإله واحدا لا رب غيره" ( انظر: رسالة العقائد، مجموع الرسائل لحسن البنا)
والشاهد هنا ان البنا مازال يسير على الطريق نفسه الذي سلكه المتكلمون في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، حيث قسموا صفات الله تعالى إلى قسمين وهما، الصفات السلبية، والصفات النفسية اعتمادا منهم على الأقيسة العقلية والمنطقية وحدها، ومحاولة تلمس آثار لها في الكتاب والسنة، فما وافقها أيدوه، وما تعارض معها يتم تأويله على اعتبار أنه من المتشابه، أو يفوضون علمه إلى الله عز وجل، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله إلى عباده برسالة لا يمكن لأحد أن يفهمها حتى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذلك فقد فوضوا علمها إلى الله.
ثم يقول: "لما كانت هذه المخلوقات محدثة ونحن نعلم من طبائعها أنها لا توجد بذاتها بل لابد لها من موجد، عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى ، ولما كان كمال الألوهية يقتضي عدم احتياج إله إلى غيره، بل إن من صفاته قيامه بنفسه، عرفنا أن الله تبارك وتعالى موجود بذاته وغير محتاج إلى من يوجده". (انظر: السابق)
إن الأدلة التي ساقها البنا في رسالته هي بعينها التي اعتمدها المتكلمون في تقسيمهم المنطقي الفلسفي لصفات الله تعالى .
يقول الإمام الأشعري، البيجوري : "وأما البقاء فهو عدم اختتام الوجود. والقيام بالنفس هو: عدم افتقاره تعالى لمحل يقوم به، ولا إلى موجد. والمخالفة للحوادث هي سلب الجرمية، والعرضية، والكلية، والجزئية، ولوازمها عنه تعالى. والواحدانية المراد منها: وحدة الذات، والصفات، والأفعال". (انظر: تحفة المريد في شرح جوهرة التوحيد للبيجوري)
ويعتمد الاشاعرة في باب صفات الله تعالى على النفي المفصل لكل ما لا يليق بذات الله عز وجل، فأعنتوا أنفسهم وأتعبوا غيرهم باختيارهم هذه الصفات التي تدل عندهم على سلب ما لا يليق بالله تعالى وهي خمس صفات: القدم، والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية. والمراد بالقدم هنا: القدم الذاتي، وهو عدم افتتاح الوجود، ولاشك أنه يطلق القدم كذلك على القدم الإضافي فهم يريدون بالقدم هنا: المعنى الأول الموافق لصفة: الأولية من اسم الله: الأول الذي أحدث كل شيء.
وهم بذلك يخالفون منهج الصحابة في فهم صفات الله عز وجل اذ يعتمدون علي المنهج الفلسفي والمنطقي في النفي المجمل لكل صفة لا تليق بجلال الله فلما أرادوا بيان المستحيل في حق الله تعالى، ذكروا أن ضدَّ المخالفة للحوادث المماثلة للحوادث، وحصروا المماثلة في عشر صور وهي: الجسم، والجوهر، والعرض، والمكان، والجهة، والتحيز، والتقيد بالزمان، وحلول الحوادث به، والصغر، والكبر، والأغراض، وقالوا بوجوب نفي هذه الصفات عن الله تعالي باعتبار ان ذلك تنزيها لذات الله عن مشابهة المخلوقين .
ولذلك تري القوم ينكرون الكثير من صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة لعدم موافقتها هذه النظرية الكلامية الفلسفية فتراهم ينكرون على من صدق كلام الله عز وجل بأنه قد استوى بذاته علي العرش ويؤولون معني الاستواء إلى الاستيلاء والهيمنة، وغير ذلك من الآيات التي يتوهمون مشابهة الخالق فيها للمخلوقين.
يقول الإمام أحمد رحمه الله : "وكل ما ذكروه من صور المماثلة ألفاظ لم يرد ذكرها في الكتاب، وفي بعضها إجمال يشتبه من الكلام، ويدعون جهَّال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين". (انظر: السنة والرد على الجهمية للإمام أحمد)
ثم يتابع البنا في كتابه مجموع الرسائل السير علي طريق المتكلمين من الاشاعرة والمعتزلة، ويعتبر أن آراءهم الكلامية الفلسفية في باب صفات الله تعالي في الكتاب والسنة هي منهج أهل السنة والجماعة.
يقول البنا: "قدمت لك أن السلف رضوان الله عليهم يؤمنون بآيات الصفات وأحاديثها كما وردت ، ويتركون بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى مع اعتقادهم بتنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه". (انظر: مجموع الرسائل لحسن البنا)
وقول البنا بأن السلف يتركون بيان المقصود من هذه الصفات لله تبارك وتعالى، هو قول المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، وليس قول السلف رضوان الله عليهم، لأنهم فهموها كما أنزلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم مباشرة، والقول بتفويض المقصود بها لله تبارك وتعالي، أمر ينافي الغاية من الوحي، لأن الله عز وجل ما أرسل نبيه صلي الله عليه وسلم إلا ليبين للناس، فكيف يأتي لهم بآيات لا يعلم المقصود منها إلا الله عز وجل ، فهل أرسل الله تعالي رسالته للحفظ فقط أم للعمل بها واتباعها كي يحصل للبشر الهداية في الدارين الدنيا والآخرة؟.
ثم ينقل البنا ما قاله المتكلمون في باب الصفات فيقول علي لسان ابن الجوزي الحنبلي في كتابه (دفع شبهة التشبيه) :
قال الله تعالى : "ويبقى وجه ربك" قال المفسرون: ويبقى ربك، وكذلك قالوا في قوله تعالى: "يريدونه وجهه" أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة : "كل شيء هالك إلا وجهه" أي إلا هو".
ويضيف البنا: وعقد البيجوري في أول الكتاب فصلا إضافيا في الرد على من قالوا أن الأخذ بظاهر هذه الآيات والأحاديث هو مذهب السلف، وخلاصة ما قاله هو أن الأخذ بالظاهر هو تجسيم وتشبيه لأن ظاهر اللفظ هو ما وضع له ، فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة ، وهكذا .
ويقول: أما مذهب السلف فليس أخذها على ظاهرها ، ولكن السكوت جملة عن البحث فيها ، وأيضا فقد ذهب إلى أن تسميتها آيات صفات وأحاديث صفات تسمية مبتدعة لم ترد في كتاب ولا في سنة، وليست حقيقية فإنها إضافات ليس غير واستدل على كلامه في ذلك بادلة كثيرة لا مجال لذكرها . (انظر: مجموع الرسائل لحسن البنا)
ثم ينتقل البنا إلى ما قاله فخر الدين الرازي في كتابه أساس التقديس : "واعلم أن نصوص القرآن لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه : الأول أن ظاهر قوله تعالى "ولتصنع على عيني" يقتضي أن يكون موسى مستقرا على تلك العين ملتصقا بها مستعليا عليها وذلك لا يقوله عاقل ، والثاني أن قوله تعالى "واصنع الفلك بأعيننا" يقتضي أن تكون آلة تلك الصنعة هي تلك العين ، والثالث أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل وذلك أن تحمل هذه الألفاظ على شدة العناية والحراسة". (انظر: السابق)
والحديث عن محاولات المتكلمين إزالة التشبيه عن الله عز وجل طويل وقد أفضى بهم إلى تصور أن ظاهر الآيات قد أدى إلى رسم صورة لا تليق بالخالق كما ذكر الرازي بقوله " أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح" ونسي أن القرآن يتحدث عن وجه الله الذي ليس كمثله شيء وليس عن وجه أحد المخلوقات، ولو أنهم وضعوا قول الله تعالى "ليس كمثله شيء" نصب أعينهم في آيات الصفات والتزموا بها ما شطحوا بنا هذه الشطحات التي أشفق على القاريء لأنني استدرجته إليها، كما أن اعتمادهم منهج النفي المفصل لكل صفة يُتوهم منها التشبيه يجرنا الي سلسلة طويلة لا نهاية لها من النفي تفضي في النهاية إلى تعطيل صفات الله تعالي لتصير جميع صفاته عدما.
ثم ينتقل البنا الي الحديث من النفي في الصفات السلبية الى الحديث عن الإثبات في الصفات النفسية لله تعالي متابعا منهج الاشعارة أيضا، فيثبت ان لله 7 صفات نفسية ، يقول البنا تحت عنوان "بين صفات الله وصفات الخلق" في كتابه مجموع الرسائل:
" والذي يجب أن يتفطن إليه المؤمن أن المعنى الذي يقصد باللفظ في صفات الله تبارك وتعالى يختلف اختلافا كليا عن المعنى الذي يقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين.... وكذلك الحياة، وكذلك السمع ، وكذلك البصر ، وكذلك الكلام ، وكذلك القدرة والإرادة ، فهذه كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق من حيث الكمال والكيفية اختلافا كليا، لأنه تبارك وتعالى لايشبه أحدا من خلقه، فتفطن لهذا المعنى فإنه دقيق، وإنما حسبك أن تعلم آثارها في الكون ، ولوازمها في حقك، والله نسأل العصمة من الزلل وحسن التوفيق" (انظر: مجموع الرسائل)
ذكر البنا في هذه الفقرة مجموعة الصفات النفسية التي يثبتها الاشاعرة لله عز وجل وهي الحياة والسمع والبصر والكلام والارادة والقدرة والعلم ، ويقصد الاشاعرة بالصفات النفسية الوجود علي اختلاف بينهم، واختار جمهورهم القول "بأنه صفة نفسية بمعنى أن الوصف به يدل على الذات نفسها، لا على صفة وجودية زائدة " (انظر: تحفة المريد)
ويرد عليهم الشيخ محمد الأمين: "ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عليم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح، لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز وإن كان المقصود به صحيحاً، لأن الصفة النفسية في الاصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً. فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس، ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس، كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً المشارك في الجوهرية, والجسمية والنمائية والحساسية.
ويضيف: وصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينَّا لك من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى. لأنه جل وعلا واحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته ولا من صفاته حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً" (انظر: أضواء البيان)
والحقيقة فإن إطالة الحديث عن جانب العقيدة وجذورها لدى جماعة الاخوان من أوجب الواجبات في هذه الفترة الحساسة من حياة الأمة لانها تسهل فهم كيفية تفكير من يسقط في شرك الجماعة والجماعات المنبثقة عنها من شباب الأمة، كما يسهل في الوقت نفسه فهم طبيعة من جذبه تيار الإلحاد أيضا وقذف به في مهاوى سحيقة سلطته على الدين والطعن فيه.
من المسلمات أن من يسلك طريقا ذا اتجاه واحد، دون التفكير في العودة ،لابد أن يصل إلى نهايته، وقد اختارت الجماعة طوعا لا كرها، طريق المتكلمين في معرفة الله وأسمائه وصفاته وقد أثبت العلماء أنها طريق محفوفة بالانحرافات العقدية المتراكمة، التي يُسّلم بعضها لبعض في سلسلة متتابعة، لا يقوي من سلكها عن التراجع عنها ، إلا إذا كان من أهل الهمم العالية والعزيمة القوية.
وقد رأينا كيف سلك حسن البنا هذه الطريق في معرفة أسماء الله تعالي وصفاته العلا بالمنهج نفسه الذي سار عليه المتكلمون، لإثبات وجود العالم أولا لكي يصل الي أن هناك خالقا لهذا الكون، وعلي هذا المنهج دخل في صفات الله تعالي بطريقة فلسفية كلامية، فوقع في التأويل والتفويض كما حدث من الاشاعرة، ونواصل في هذه الحلقة البحث في تلك السلسلة المتتابعة التي سلكها البنا في معرفة صفات الله تعالى.
يقول البنا تحت عنوان "الأدلة العقلية والمنطقية على إثبات صفات الله تعالى:
"يعمد علماء العقائد إلى إثبات صفات الله تبارك وتعالى بأدلة عقلية ، وأقيسة منطقية ، ونحن نقول : إن ذلك حسن، لأن العقل أساس المعرفة، ومناط التكليف، وحتى لا يكون في نفس أحد أثر من آثار الشبهات والأباطيل.... ومع هذا فتتميما للفائدة نذكر بعض الأدلة العقلية الإجمالية والتفصيلية ، فنقول :
الدليل الأول : هذا الوجود الذي يدل بعظمته وإحكامه على وجود خالقه وعظمته وكماله.
الدليل الثاني : إن فاقد الشيء لا يعطيه ، فإذا لم يكن موجد الكون متصفا بصفات الكمال فكيف تكون آثار هذه الصفات في مخلوقاته .
الدليل الثالث : وهو خاص بأن هذا الخالق واحد لا يتعدد ، إن التعدد مدعاة للفساد والخلاف والعلو ولاسيما وشأن الألوهية الكبرياء والعظمة ، وأيضا فلو استقل أحد المتعددين بالتصرف تعطلت صفات الآخرين، ولو اشتركوا تعطلت بعض صفات كل منهم ، وتعطيل صفات الألوهية يتنافى مع جلالها وعظمتها ، فلابد أن يكون الإله واحدا لا رب غيره" ( انظر: رسالة العقائد، مجموع الرسائل لحسن البنا)
والشاهد هنا ان البنا مازال يسير على الطريق نفسه الذي سلكه المتكلمون في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، حيث قسموا صفات الله تعالى إلى قسمين وهما، الصفات السلبية، والصفات النفسية اعتمادا منهم على الأقيسة العقلية والمنطقية وحدها، ومحاولة تلمس آثار لها في الكتاب والسنة، فما وافقها أيدوه، وما تعارض معها يتم تأويله على اعتبار أنه من المتشابه، أو يفوضون علمه إلى الله عز وجل، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله إلى عباده برسالة لا يمكن لأحد أن يفهمها حتى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذلك فقد فوضوا علمها إلى الله.
ثم يقول: "لما كانت هذه المخلوقات محدثة ونحن نعلم من طبائعها أنها لا توجد بذاتها بل لابد لها من موجد، عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى ، ولما كان كمال الألوهية يقتضي عدم احتياج إله إلى غيره، بل إن من صفاته قيامه بنفسه، عرفنا أن الله تبارك وتعالى موجود بذاته وغير محتاج إلى من يوجده". (انظر: السابق)
إن الأدلة التي ساقها البنا في رسالته هي بعينها التي اعتمدها المتكلمون في تقسيمهم المنطقي الفلسفي لصفات الله تعالى .
يقول الإمام الأشعري، البيجوري : "وأما البقاء فهو عدم اختتام الوجود. والقيام بالنفس هو: عدم افتقاره تعالى لمحل يقوم به، ولا إلى موجد. والمخالفة للحوادث هي سلب الجرمية، والعرضية، والكلية، والجزئية، ولوازمها عنه تعالى. والواحدانية المراد منها: وحدة الذات، والصفات، والأفعال". (انظر: تحفة المريد في شرح جوهرة التوحيد للبيجوري)
ويعتمد الاشاعرة في باب صفات الله تعالى على النفي المفصل لكل ما لا يليق بذات الله عز وجل، فأعنتوا أنفسهم وأتعبوا غيرهم باختيارهم هذه الصفات التي تدل عندهم على سلب ما لا يليق بالله تعالى وهي خمس صفات: القدم، والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية. والمراد بالقدم هنا: القدم الذاتي، وهو عدم افتتاح الوجود، ولاشك أنه يطلق القدم كذلك على القدم الإضافي فهم يريدون بالقدم هنا: المعنى الأول الموافق لصفة: الأولية من اسم الله: الأول الذي أحدث كل شيء.
وهم بذلك يخالفون منهج الصحابة في فهم صفات الله عز وجل اذ يعتمدون علي المنهج الفلسفي والمنطقي في النفي المجمل لكل صفة لا تليق بجلال الله فلما أرادوا بيان المستحيل في حق الله تعالى، ذكروا أن ضدَّ المخالفة للحوادث المماثلة للحوادث، وحصروا المماثلة في عشر صور وهي: الجسم، والجوهر، والعرض، والمكان، والجهة، والتحيز، والتقيد بالزمان، وحلول الحوادث به، والصغر، والكبر، والأغراض، وقالوا بوجوب نفي هذه الصفات عن الله تعالي باعتبار ان ذلك تنزيها لذات الله عن مشابهة المخلوقين .
ولذلك تري القوم ينكرون الكثير من صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة لعدم موافقتها هذه النظرية الكلامية الفلسفية فتراهم ينكرون على من صدق كلام الله عز وجل بأنه قد استوى بذاته علي العرش ويؤولون معني الاستواء إلى الاستيلاء والهيمنة، وغير ذلك من الآيات التي يتوهمون مشابهة الخالق فيها للمخلوقين.
يقول الإمام أحمد رحمه الله : "وكل ما ذكروه من صور المماثلة ألفاظ لم يرد ذكرها في الكتاب، وفي بعضها إجمال يشتبه من الكلام، ويدعون جهَّال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين". (انظر: السنة والرد على الجهمية للإمام أحمد)
ثم يتابع البنا في كتابه مجموع الرسائل السير علي طريق المتكلمين من الاشاعرة والمعتزلة، ويعتبر أن آراءهم الكلامية الفلسفية في باب صفات الله تعالي في الكتاب والسنة هي منهج أهل السنة والجماعة.
يقول البنا: "قدمت لك أن السلف رضوان الله عليهم يؤمنون بآيات الصفات وأحاديثها كما وردت ، ويتركون بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى مع اعتقادهم بتنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه". (انظر: مجموع الرسائل لحسن البنا)
وقول البنا بأن السلف يتركون بيان المقصود من هذه الصفات لله تبارك وتعالى، هو قول المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، وليس قول السلف رضوان الله عليهم، لأنهم فهموها كما أنزلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم مباشرة، والقول بتفويض المقصود بها لله تبارك وتعالي، أمر ينافي الغاية من الوحي، لأن الله عز وجل ما أرسل نبيه صلي الله عليه وسلم إلا ليبين للناس، فكيف يأتي لهم بآيات لا يعلم المقصود منها إلا الله عز وجل ، فهل أرسل الله تعالي رسالته للحفظ فقط أم للعمل بها واتباعها كي يحصل للبشر الهداية في الدارين الدنيا والآخرة؟.
ثم ينقل البنا ما قاله المتكلمون في باب الصفات فيقول علي لسان ابن الجوزي الحنبلي في كتابه (دفع شبهة التشبيه) :
قال الله تعالى : "ويبقى وجه ربك" قال المفسرون: ويبقى ربك، وكذلك قالوا في قوله تعالى: "يريدونه وجهه" أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة : "كل شيء هالك إلا وجهه" أي إلا هو".
ويضيف البنا: وعقد البيجوري في أول الكتاب فصلا إضافيا في الرد على من قالوا أن الأخذ بظاهر هذه الآيات والأحاديث هو مذهب السلف، وخلاصة ما قاله هو أن الأخذ بالظاهر هو تجسيم وتشبيه لأن ظاهر اللفظ هو ما وضع له ، فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة ، وهكذا .
ويقول: أما مذهب السلف فليس أخذها على ظاهرها ، ولكن السكوت جملة عن البحث فيها ، وأيضا فقد ذهب إلى أن تسميتها آيات صفات وأحاديث صفات تسمية مبتدعة لم ترد في كتاب ولا في سنة، وليست حقيقية فإنها إضافات ليس غير واستدل على كلامه في ذلك بادلة كثيرة لا مجال لذكرها . (انظر: مجموع الرسائل لحسن البنا)
ثم ينتقل البنا إلى ما قاله فخر الدين الرازي في كتابه أساس التقديس : "واعلم أن نصوص القرآن لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه : الأول أن ظاهر قوله تعالى "ولتصنع على عيني" يقتضي أن يكون موسى مستقرا على تلك العين ملتصقا بها مستعليا عليها وذلك لا يقوله عاقل ، والثاني أن قوله تعالى "واصنع الفلك بأعيننا" يقتضي أن تكون آلة تلك الصنعة هي تلك العين ، والثالث أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل وذلك أن تحمل هذه الألفاظ على شدة العناية والحراسة". (انظر: السابق)
والحديث عن محاولات المتكلمين إزالة التشبيه عن الله عز وجل طويل وقد أفضى بهم إلى تصور أن ظاهر الآيات قد أدى إلى رسم صورة لا تليق بالخالق كما ذكر الرازي بقوله " أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح" ونسي أن القرآن يتحدث عن وجه الله الذي ليس كمثله شيء وليس عن وجه أحد المخلوقات، ولو أنهم وضعوا قول الله تعالى "ليس كمثله شيء" نصب أعينهم في آيات الصفات والتزموا بها ما شطحوا بنا هذه الشطحات التي أشفق على القاريء لأنني استدرجته إليها، كما أن اعتمادهم منهج النفي المفصل لكل صفة يُتوهم منها التشبيه يجرنا الي سلسلة طويلة لا نهاية لها من النفي تفضي في النهاية إلى تعطيل صفات الله تعالي لتصير جميع صفاته عدما.
ثم ينتقل البنا الي الحديث من النفي في الصفات السلبية الى الحديث عن الإثبات في الصفات النفسية لله تعالي متابعا منهج الاشعارة أيضا، فيثبت ان لله 7 صفات نفسية ، يقول البنا تحت عنوان "بين صفات الله وصفات الخلق" في كتابه مجموع الرسائل:
" والذي يجب أن يتفطن إليه المؤمن أن المعنى الذي يقصد باللفظ في صفات الله تبارك وتعالى يختلف اختلافا كليا عن المعنى الذي يقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين.... وكذلك الحياة، وكذلك السمع ، وكذلك البصر ، وكذلك الكلام ، وكذلك القدرة والإرادة ، فهذه كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق من حيث الكمال والكيفية اختلافا كليا، لأنه تبارك وتعالى لايشبه أحدا من خلقه، فتفطن لهذا المعنى فإنه دقيق، وإنما حسبك أن تعلم آثارها في الكون ، ولوازمها في حقك، والله نسأل العصمة من الزلل وحسن التوفيق" (انظر: مجموع الرسائل)
ذكر البنا في هذه الفقرة مجموعة الصفات النفسية التي يثبتها الاشاعرة لله عز وجل وهي الحياة والسمع والبصر والكلام والارادة والقدرة والعلم ، ويقصد الاشاعرة بالصفات النفسية الوجود علي اختلاف بينهم، واختار جمهورهم القول "بأنه صفة نفسية بمعنى أن الوصف به يدل على الذات نفسها، لا على صفة وجودية زائدة " (انظر: تحفة المريد)
ويرد عليهم الشيخ محمد الأمين: "ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عليم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح، لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز وإن كان المقصود به صحيحاً، لأن الصفة النفسية في الاصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً. فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس، ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس، كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً المشارك في الجوهرية, والجسمية والنمائية والحساسية.
ويضيف: وصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينَّا لك من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى. لأنه جل وعلا واحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته ولا من صفاته حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً" (انظر: أضواء البيان)
والحقيقة فإن إطالة الحديث عن جانب العقيدة وجذورها لدى جماعة الاخوان من أوجب الواجبات في هذه الفترة الحساسة من حياة الأمة لانها تسهل فهم كيفية تفكير من يسقط في شرك الجماعة والجماعات المنبثقة عنها من شباب الأمة، كما يسهل في الوقت نفسه فهم طبيعة من جذبه تيار الإلحاد أيضا وقذف به في مهاوى سحيقة سلطته على الدين والطعن فيه.