رغم مرور عشرة أيام تقريبًا على خطاب السيد رئيس الجمهورية فإنه مازال يثير ردود فعل كبيرة فى الساحة العامة، لا بل يراه الكثيرون نقطة تحول فى الأداء الرئاسى المصرى بأكمله.
ولم يكن سبب الضجة حول الخطاب - الذى ألقاه الرئيس فى مناسبة إطلاق استراتيجية مصر للتنمية المستدامة ٢٠٣٠ وفى إطار عام الشباب - هو (المضمون) على أهميته، ولكنه كان (اللهجة) التى تحدث بها الرئيس السيسى، والتى كانت قوية بدرجة غير مسبوقة، لا بل غاضبة فى بعض الأحيان.
ونحن كخبراء فى علوم الإعلام نعرف أصول تحليل الخطاب، سواء من حيث المفردات أو من حيث اللهجة والسياق، ولذلك أقر - بداية - أن انفعال الرئيس لم يكن تعبيرًا عن انفلات عصبى، وإنما كان مدروسًا بعناية شديدة، بعبارة أخرى كان انفعال رجل دولة رأى أن بلده يتعرض - مرة أخرى - لنفس السيناريو الإجرامى لهدم مؤسسات الدولة عبر التحريض والتهييج الجماهيرى الممنهج، وتسخيف الأداء الرئاسى والحكومى، وإهانة مؤسسات الدولة، والتحفيز للاجتراء عليها، وهى نفس الأساليب التى تدفع إليها القوى المتآمرة على مصر منذ ما قبل عملية يناير ٢٠١١ وحتى اللحظة الراهنة.
الرجل أراد أن يكون خطابه ردعا مبكرا لمثل أولئك المتآمرين، وقد تحدث إليهم - لذلك - منذرا ومتوعدا، وفى ذات الوقت شارحا (للشعب بعامة) طبيعة الظرف الخطير الذى نمر به ويجعل بلدنا يعيش يوما بيوم، وهى صيغة لا تحتمل ذلك العبث الذى يستهدفنا به نفر من العملاء بشكل يومى تقريبًا من احتجاجات واضطرابات وإضرابات وإهانة لرموز الدولة وهياكلها ومؤسساتها.
ولقد رأينا بأعيننا مهندسًا يحشر نفسه فى اجتماع لجمعية عمومية لنقابة الأطباء، ويدلى بتصريحات إلى إحدى وسائل الإعلام قائلا: إننا (لم يحدد من هم ولكنه على الأقل وضع نفسه فى زمرتهم) هزمنا مبارك بالضربة القاضية فى ٢٥ يناير، وهزمنا مرسى بالضربة القاضية فى ٣٠ يونيو، ولكننا سنهزم السيسى بالنقاط.
الحقيقة أن أقوال ذلك المهندس (الذى يشن حملة عقورة فى كل مكان بعد ما فشل فى الحصول على حجم أعمال كان يتصوره فى مشروع شق قناة السويس الجديدة) هى خطأ فى خطأ فى خطأ.. الذى نجح فى إسقاط نظام مبارك فى ٢٥ يناير كانت الكتلة الجماهيرية الضخمة التى خرجت تحتج على سياسات اجتماعية اقتصادية رأتها ظالمة، وهى لم تحقق ما سعت إليه إلا بمساندة مؤثرة من القوات المسلحة المصرية، ولم يكن للنخب الثرثارة وتجمعات المتمولين من الخارج وهليبة الجماعات الأهلية والمتدربين فى أكاديميات التغيير وغيرهم من أراجوزات التحرير تأثير يذكر فى عملية التغيير التى جرت فى ٢٥ يناير.
ثم إن ذلك المهندس راح يتحدث عن أنه ومعه زمرته قاموا بثورة ٣٠ يونيو ضد محمد مرسى (أول جاسوس مدنى منتخب) وهذه أيضًا كذبة صريحة، فالحقيقة أن النخب التى تنتمى إليها مجموعات يناير خانت المجموع الوطنى ولعبت أحط الأدوار فى تأييد مرسى تحت شعارات ساقطة من طراز: (عصير الليمون)، ومرة أخرى فقد كانت الكتلة الجماهيرية الوطنية هى التى تحركت للتغيير متكئة على القوات المسلحة المصرية التى لم تخذلها.
أما حكاية تصور أن ذلك يمكن أن يتكرر مع الرئيس السيسى (بالنقاط) فتلك هلاوس حقيقية لأن الرجل يستند إلى تأييد شعبى جارف، وإلى مؤسسات دولة أعيد بناؤها على نحو نزيه وشفاف يعكس - بالضبط - الإرادة الشعبية أيًا كانت، ثم أن تلك المؤسسات وضمنها الرئاسة تستند إلى حماية وتأمين القوات المسلحة نفسها، ومن ثم فإن الحديث عن ضرب نظام السيسى لا يمثل إلا فكر من يتفوه به.
وأضاف المهندس: إن ذلك الرجل (يقصد سيادة الرئيس) سوف يؤدى بمصر إلى الإفلاس (يقصد بذلك مشروعات السيسى القومية).
وهذه أيضا كذبة مأساوية لأن الرئيس لم يقدم على تلك المشاريع بناء على تصور وضعه أو أوهام تخيلها، ولكنه فعل استنادا إلى دراسات قام بها نفر من الكوادر المهنية الأعلى مستوى فى بلدنا، وربما فى العالم، والحديث عن الإفلاس أيضا هو محض أكذوبة فمصر ليست اليونان، وهى تقوم بسداد أقساط ديونها وقروضها فى مواعيدها المحددة تماما، ولا يستطيع أى فرد أن يقول بأن احتياجاته الأساسية غير موجودة أو لم تتمكن مؤسسات الدولة المصرية من جلبها، ثم إن الموظفين يتحصلون على رواتبهم ولم يقم أحد بتسريحهم، ومستحقى الضمان الاجتماعى يصرفون معاشاتهم، والوقود فى مستودعاته أو فى محطات البنزين، وهذه - كلها - ليست على الكلية والتفصيل مظهرا من مظاهر الإفلاس الذى تحدث عنه ذلك الرجل.
يتواكب مع ذلك حملات سافلة على مواقع التواصل الاجتماعى للإساءة إلى الرئيس أو إلى مشروعات الدولة، ربما كان ضمنها موضوع (السجادة الحمراء) التى حاول المتحدثون عنها الإشارة إلى أن دهاقنة الدولة المصرية يفخمون الرئيس ويعظمونه مثل القياصرة، والحقيقة أن ذلك الكلام هو - محض - ادعاء ومبالغة، لا يضع فى حسبانه أهمية شكل الدولة وهيبتها ومظهر الرئيس (الذى لن يسحب معه السجادة الحمراء ويذهب بها إلى منزله).
هذه - كلها - تفلتات خطيرة ومقصودة، وبدأت تأخذ شكل تيار يومى يهدف إلى زيادة الاحتقان، وقد أثارت الخوف عند المصريين من تكرار عملية يناير مرة أخرى، خاصة أنها واكبت بعض محاولات من الخارج لمواصلة تقويض مؤسسات الدولة.
ولذلك كان (الردع المبكر) مطلوبا، وكانت لهجة الرئيس ضرورية بنفس درجة الحدة والانفصال والغضب والتحذير.