نرى أن فيلم «قبل الربيع»، إخراج وتأليف أحمد عاطف، أحسن فيلم روائى طويل عن ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ حتى وقت إنتاجه (٢٠١٤)، وهو لم يعرض بعد عرضًا عامًا للجمهور.
والفيلم عن مقدمات الثورة، قمعًا وقهرًا وغطرسة من قبل السلطات الحاكمة سواء أمنية.. (يبدأ الفيلم بصنوف من تعذيب المعارضين)، أو سياسية.. (خليهم يتسلوا: القول الشهير لرئيس السلطة حينما أخبروه ببرلمان المعارضة الموازى فى مواجهة أشهر وأوقح تزوير لبرلمان فى تاريخ مصر فى ٢٠١٠ قبيل الثورة). وتكتمل أحداث الفيلم باندلاع الثورة، ومعركة الشعب فى ميدان التحرير وكل ميادين وأنحاء مصر من أجل خلع مبارك.. والحق أن الفيلم على بساطته مشبع دراميًا مقنع سياسيًا. فالفيلم عبر الدراما وثيقة سياسية إبداعية لأجواء ما قبل الثورة، وحينما تندلع يوفق المخرج بوضوح فى مزج أو «تضفير» المشاهد الحقيقية فى ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يومًا الأسطع فى تاريخ مصر المعاصرة، مع لقطات للممثلين أبطال الفيلم، يشاركون فى المظاهرات الهادرة، ونرى أحدهم تصيب الرصاصة عينه على يد شرطة السلطة، فنستعيد على الفور ما حدث للبطل «حرارة» ولعديدين، عبر مواقف الحدث الجلل الثورى، يصابون ويفقدون عيونهم (تحت وقع قول رجال الشرطة لبعضهم تهنئة على إصابة الثوار بدقة فى العيون: «جدع يا باشا!»)، إلى جانب النبلاء من الشهداء الذين حفلت الملحمة والمعركة بما قدموه من بذل وأرواح.
ويبدأ الفيلم بالنماذج الشابة التى لم تعد تحتمل ما تقاسيه البلاد من ظلم وما تعانيه من فساد، يؤديها: حنان مطاوع، هنا شيحة، أحمد وفيق، ثراء جبيل.. وغيرهم من ممثلين، يؤدون جميعًا بنضجهم الفنى الواضح، وبأعصابهم وإحساسهم الصادق وما يعتمل بنفوسهم من اقتناع بقضية الثورة، التى شارك الكثيرون منهم فى خضمها فى الواقع.
ونرى فى البدايات، كيف ألهمت الثورة الشعبية السلمية فى تونس، وثوارها الرائعون ونجاحها فى الإطاحة بالطاغية، شعب وشباب مصر.. ويبرز الفيلم مانشيتات الصحف الحكومية: (مصر ليست تونس!).. كما نتابع دور «فيسبوك» ومواقع التواصل الاجتماعى الحديثة فى مقدمات الثورة والتأهب لها، وضمن الصدارة (صفحة: كلنا خالد سعيد).. وترد على الشاشة تواريخ تشير إلى يوميات الأسابيع الأخيرة قبل اندلاع الثورة يومًا بيوم.. متضافرًا ذلك مع مشاعر إنسانية وعاطفية ما بين شباب وفتيات من أبطال الفيلم.
وتتكامل العناصر الفنية للفيلم بقيادة ووفق رؤية مخرجه أحمد عاطف، ما بين التمثيل، وتصوير تامر جوزيف، ومونتاج محمد الشامى، وديكور محمد المعتصم، وموسيقى خالد داغر.. مضيفًا عاطف إلى الموسيقى فى خاتمة الفيلم أغنية راقية شجية من تأليفه، فى ذروة ختامية ما بين شريط الصورة للملايين الهادرة والمزج المرهف للقطات الوثائقية بلقطات مصورة لممثلى الفيلم فى الميدان، وشريط الصوت الذى ينتقل بسلاسة من صوت الجماهير الثائرة المصممة على خلع الديكتاتور، إلى الأغنية المبتهجة بمجىء الربيع.. وكنا نظن ونحن فى عز الشتاء والليل، أنه لم يحن بعد أوان أن يهل.
أما ماذا بعد؟.. وماذا كان ويكون لثورة الربيع فى بلادنا؟.. فلعل هذا يكون موضوع ومعالجة فيلم تال لأحمد عاطف، كمخرج جاد مثقف مرهف، تمكن بالفعل كما قلنا من إبداع فيلم: على بساطته وسلاسته، مشبع دراميًا مقنع سياسيًا.. ولا غرابة أن يفوز فيلم عاطف «قبل الربيع» بجوائز عدة، ومن قبل أن يعرض للجمهور عرضًا عامًا، من بينها: جائزة أفضل فيلم عربى من أيام الجزائر السينمائية ٢٠١٤، والجائزة البلاتينية الكبرى من الجوائز العالمية لحقوق الإنسان بإندونسيا ٢٠١٥، والوصول للتصفية النهائية بجوائز الفرانكفونية الدولية بباريس مع جائزة للفنانة حنان مطاوع عن دورها بالفيلم..
«زيزينيا».. و«وجع البعاد»
أتابع حاليًا مسلسلين مهمين، تعيدهما قناة النيل للدراما.. فى الثالثة عصرًا الجزء الأول من «زيزينيا»، من أروع أعمال أسامة أنور عكاشة وأحبها إلى قلبى، وأحسن عمل من إخراج جمال عبدالحميد فى كل مشواره.. وعقبه فى الرابعة مسلسل «وجع البعاد».. عن رواية يوسف القعيد، وإخراج إسماعيل عبد الحافظ.. يخطر لى أن ما يجمع بين المسلسلين أن إبداع عكاشة هو امتداد لأدب نجيب محفوظ، لكن فى دراما التليفزيون.. وأن إبداع القعيد هو امتداد لأدب نجيب محفوظ، لكن فى الريف.. ومن المعروف أن نجيب محفوظ لم يقدم الريف المصرى على الإطلاق فى رواياته، لأنه لفرط صدقه وتدقيقه لم يقدم (مناخًا أو بيئة) لم يعش فيها ويخبر أهلها.. كل من القعيد وعكاشة مبدع قدير، يقدم دراما تنتمى إلى الواقعية.. كما ينتمى معظم أدب محفوظ، لكن تدور فيما تلى العصور التى تناولها معظم أدب محفوظ.. خاصة «عصر ما بعد يوليو وعبد الناصر»، والردة الحادة ضد عصر ناصر ابتداء من «السبعينيات».. كما أن لكل من القعيد وعكاشة، خصوصية وتميز إبداع، يعبر عن صدق كل من هذين المبدعين، وأصالة وعمق موهبة كل منهما، والعطاء الهائل الجميل لكل من المبدعين الكبيرين.