سيادة القانون مبدأ مستقر فى كل الدول الديمقراطية المعاصرة. غير أنه لا يكفى تقرير هذا المبدأ فى الدستور، بل لا بد من الحرص الشديد على تطبيقه تطبيقا صحيحا فى الممارسة الفعلية.
وهذا التطبيق الصحيح معناه عدم التمييز فى تطبيق القانون بين الأغنياء والفقراء، ولا بين ذوى النفوذ والمواطنين العاديين.
وقد لوحظ فى مجال الممارسة فى دول شتى أن هناك أحيانا خروجا على مبدأ سيادة القانون. وهذا الخروج يتخذ -بحسب التركيب الطبقى فى مجتمعات متعددة ووفقا لتوجهات النظام السياسى السائد- صورا شتى تؤدى إلى الانحراف فى تطبيق هذا المبدأ الدستورى المهم.
فعلى سبيل المثال -وفى الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا- استطاع كبار رجال الأعمال التهرب من تطبيق القانون الذى ينص على عقوبات بالسجن لو خالفوا القواعد المهنية الخاصة بممارستهم لنشاطهم الاقتصادى.
وقد كشفت عن هذا الانحراف الخطير بشجاعة أدبية كبيرة عالم الاجتماع الأمريكى، إدوين ساورلاند، الذى ألف فى الموضوع كتابا شهيرا عنوانه «جرائم أصحاب الياقات البيضاء» White Collar Crimes.
وقد قام هذا الباحث المرموق ببحث ميدانى على ممارسات رجال الأعمال فى أكثر من ٢٠٠ شركة، وتبين له أن مديرى هذه الشركات استطاعوا الهروب من تطبيق عقوبة السجن عليهم فى المخالفات التى قاموا بها بأن استبدلوا عقوبة الغرامة بالعقوبات السالبة للحرية.
وهكذا استطاعوا نتيجة التحالف مع أعضاء الكونجرس تغيير النصوص القانونية حتى يفلتوا من العقاب.
أما الانحراف فى مجال تطبيق هذا المبدأ الدستورى المهم فهو يتخذ أساليب متنوعة أهمها على الإطلاق أن كبار الأغنياء -أيا كانت المهن التى يمارسونها وسواء كانت فى مجال الأعمال أو فى غيرها- ينجحون فى مرات عديدة فى الهروب من تطبيق مبدأ سيادة القانون عليهم، إما باللجوء إلى كبار المحامين الذين برعوا فى استخدام الدفوع الشكلية والموضوعية، لتبرئة هؤلاء حين يرتكبون جريمة من الجرائم، وإما يلجأون إلى تغيير أوراق التحريات التى تقوم بها الشرطة باستخدام آليات الفساد التى قد تصيب الأجهزة الإدارية أو الشرطية.
ويمكن القول إنه نتيجة لسيادة الأساليب البيروقراطية فى جمع التحريات اللازمة لإدانة المتهمين فى جرائم شتى قد يؤدى ذلك إلى إدانة بعض المتهمين على غير أساس من الواقع.
ونعرف أن القاضى -وفقا للممارسات المعتادة- يحكم فى أى قضية من واقع الأوراق التى أمامه فى ملف القضية، الذى يشمل عادة تحريات الشرطة وتحقيقات النيابة العامة. ومعنى ذلك أنه لو لحق الخلل بالإجراءات -أيا كانت أسبابه- سواء فى مجال التحريات التى تقوم بها الشرطة أو التحقيقات التى تقوم بها النيابة، فإن الحكم قد يصدر على غير الواقع.
ومن هنا يمكن القول إن التطبيق الصحيح لمبدأ سيادة القانون يتطلب التدقيق الشديد فى مرحلة جمع التحريات وفى مرحلة تحقيقات النيابة.
نقول هذا بمناسبة حالة شاذة من حالات تطبيق القانون، وهى التى تتعلق بإصدار محكمة الجنح فى الفيوم ومحكمة القضاء العسكرى حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة على متهم قيل فى التحريات إن سنه ١٦ سنة، وتبين بعد ذلك أنه اسم طفل صغير لا تتعدى سنه ٤ سنوات.
وكان يمكن القول إن تشابها فى الأسماء قد تسبب فى هذا الخطأ الخطير، غير أنه بعد أن أثير الموضوع فى أحد البرامج التليفزيونية حضر فيه والد هذا الطفل الذى أنكر الواقعة المسندة إلى ابنه بطبيعة الأحوال، إلا أن الشرطة قبضت على الأب وصدر قرار بحبسه -على غير أساس- وظل فى الحبس أربعة أشهر كاملة إلى أن صدر حكم المحكمة بتبرئته.
وقد شاهدت البرنامج التليفزيونى، وكان حاضرا المحامى الذى ترافع فى القضية، وقرر أن هذا الخطأ فى حق هذا الطفل الصغير يمكن تلافيه، لأن الأحكام العسكرية لا تنفذ إلا إذا صدق عليها الضابط المسئول عن التصديق على الأحكام.
وهو يستطيع -طبقا للقانون- أن يلغى الحكم إذا تبين له أن عيوبا قد شابت إجراءات المحاكمة.
وقد لفت نظرى أن المتحدث الرسمى باسم القوات المسلحة قد أصدر بيانا يوضح فيه الحقائق الخاصة بهذا الحكم.
غير أن التوضيح لم ينف الوقائع التى ذكرها الأب التى ترجع فى الواقع إلى الخطأ الشديد فى عملية التحريات التى لم تكن دقيقة بالقدر الكافى، وأدت إلى إدراج اسم الطفل مع ١١٦ متهما وجهت إليهم تهم تتعلق بالاعتداء على المنشآت الحكومية، بالإضافة إلى جرائم خطيرة أخرى.
والواقع أن هذه الحالة وغيرها من الحالات تحتاج إلى مراجعة دقيقة لعملية التحريات التى يقوم بها جهاز الشرطة، ضمانا لتوجيه الاتهام إلى المتهمين الحقيقيين الذين ارتكبوا الجرائم المسندة إليهم.
وتبدو الأهمية القصوى فى مجال التحريات، لأنها هى الأساس الذى يعتمد عليه أعضاء النيابة العامة فى تحقيقاتهم.
ومعنى ذلك أنه لو حدث خطأ جسيم فيها، فإن ذلك قد يؤدى إلى إصدار أحكام جنائية على من لم يرتكبوا أى جرم، وفى ذلك فى الواقع إخلال جسيم بمبدأ سيادة القانون ومساس بعملية تحقيق العدالة.
وفى تقديرنا أن هناك حاجة إلى تطوير الأساليب الشرطية فى مجال جمع التحريات، كما أن هناك حاجة إلى التدقيق فى مرحلة تحقيق النيابة، لضمان أنه حين يحول ملف القضية إلى المحكمة، لكى تصدر حكمها، تكون الأوراق صحيحة، مما يساعد القاضى على أن تكون الأحكام معبرة عن الواقع الفعلى.
وعلى ذلك لا بد من تعديل تشريعى يضمن تصحيح الأخطاء التى تقع، سواء فى مرحلة التحريات أو فى مرحلة تحقيق النيابة.
مبدأ سيادة القانون وتطبيقه تطبيقا سليما هو عماد تحقيق العدالة فى المجتمع، وهى قيمة عليا من القيم التى ينبغى على أى نظام ديمقراطى أن يحافظ عليها.