نحن نمضى فى حياتنا اليومية، وعيوننا تنظر من حين لآخر لساعة فى ميدان أو على شاشة الكمبيوتر، أو على شاشة التليفزيون لنعرف الوقت؛ ونمضى فى شوارعنا ومنازلنا والساعات فى أيدينا؛ فإذا تعطلت أو نسيناها فى مكان ما، فقد نسأل شخصًا آخر أو يسألنا «كم الساعة الآن؟»، لقد كان ابتكار الساعة وتطورها نقلة مذهلة فى علاقة الإنسان بالزمن، وتسللت الساعة إلى أغانينا بل وإلى أمثالنا الشعبية مشبهين الإنسان المنضبط بأنه كالساعة، إنها آلة الساعة الميكانيكية التى حلت محل وسائل قديمة لمعرفة الوقت، حيث سبق للصينيين منذ القرن العاشر صناعة ساعات ميكانيكية ضخمة، ومن الممكن أن تكون أنباء إنجازهم قد أسهمت فى الدفع بتطور صناعة الساعات فى أوروبا. وعلى أى حال فإن أحدًا لم يجار الأوروبيين من حيث دقتهم فى آلية صناعة الساعات، وحماسهم لصناعة العجيب منها.
ربما يتعجب البعض حين نتحدث عن صلة بين تلك الساعات التى أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، وبين علماء النفس وتطويرهم لعلمهم. لقد كانت عيون صناع علم النفس مصوبة إلى المجتمع حولهم، يستلهمونه الأفكار التى تساعدهم على تطوير علمهم؛ وكانت الساعة الميكانيكية بمثابة النموذج الملهم للنزعة الميكانيكية التى سادت فكر القرن السابع عشر، ويشير المؤرخ دانييل بورستين إلى الساعة باعتبارها «أم الماكينات»، لقد كان للساعات فى القرن السابع عشر وقع تكنولوجي مؤثر، لا يختلف عن وقع أجهزة الكمبيوتر فى منتصف القرن العشرين. لم يكن لأى من الآلات الميكانيكية الأخرى مثل ذلك التأثير على الفكر البشرى فى جميع مستويات المجتمع فى أوروبا، حيث جرى إنتاج الساعات بكميات هائلة وبتنوع كبير.
كانت الساعات فى البداية ـ كما أشرنا ـ ضخمة الحجم؛ وأخذت فى الانكماش شيئًا فشيئًا، شأن العديد من الأجهزة الآلية. ومع التقدم التكنولوجى تطورت الساعات الصغيرة، بحيث أصبح من الممكن أن يحملها الفرد معه أينما كان، كان الناس فى البداية يعلقون الساعات فى سلاسل حول رقابهم كرمز لثراء الفرد، وقد دفع اكتساب الساعات لتلك القيمة الرمزية الدالة على المكانة؛ ببعض المذاهب المسيحية التى تدين التفاخر المظهري؛ إلى الاعتراض على تلك المباهاة، ودعوة الناس إلى الالتزام بإخفائها بوضعها فى جيوبهم؛ ومن تلك المذاهب أتباع الكالفينية وهى مذهب مسيحى بروتستانتى يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسى چون كالفن الذى وضع بين عامى ١٥٣٦م و١٥٥٩م مؤلفه «مبادئ الإيمان المسيحي» والذى يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب فى الحركة البروتستانتية؛ وكذلك أتباع التطهيرية وهى مذهب دينى ظهر فى القرن السادس عشر، وتأثر فى نشأته بالتعاليم البروتستانتية التى تحض على التزام الفرد التزامًا صارمًا بالاستقامة والتواضع فى حياته اليومية، وبدأ بذلك ظهور ساعات الجيب التى ظلت منتشرة حتى القرن العشرين.
وانتشرت الساعات الأكبر المقامة فى أبراج الكنائس والمبانى الحكومية والتى يمكن أن يراها ويسمعها المقيمون حولها على بعد عدة أميال. وبذلك أصبحت الساعات متاحة للجميع بصرف النظر عن طبقته الاجتماعية أو ظروفه الاقتصادية.
ونظرًا لما تتميز به الساعات من دقة وانتظام وقابلية للتنبؤ، فقد بدأ الفلاسفة والعلماء فى النظر إليها باعتبارها نموذجًا للكون الفيزيقى. وربما كان العالم بأسره لا يعدو أن يكون ساعة هائلة صنعها الخالق وزودها بالحركة. ولقد تقبل هذه الفكرة عالم الفيزياء البريطانى روبرت بويل، وعالم الفلك الألمانى جوهان كبلر، والفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت وعبروا جميعًا عن اعتقادهم بأنه يمكن تفسير انسجام الكون وانتظامه فى ضوء انتظام الساعة الذى يودعه فيها صانعها؛ بأنه يرجع إلى ما أودعه الله فى الكون من انسجام وانتظام.
ولقد أعلن الفيلسوف الألمانى كريستيان أون وولف «إن الكون لا يختلف فى سلوكه عن عمل الساعة»، ويمضى تلميذه جوهان كريستوف جوتشيد موضحا أنه «طالمًا أن الكون عبارة عن آلة، فإن ثمة تماثلًا كبيرًا بينه وبين الساعة؛ ومن ثم فإننا نستطيع أن نتخذ من الساعة نموذجًا مصغرًا، يقرب إلى فهمنا بشكل مبسط بما يجرى فى الكون على نطاق أوسع».
عندما ننظر إلى العالم باعتباره آلة تشبه الساعة؛ فإنه سوف يستمر وفقًا لذلك فى العمل بكفاءة دون أى تدخل خارجى، ومن هنا فإن قياس العالم على مثال الساعة، يقوم على مفهوم الحتمية؛ أى الاعتقاد بأن الأحداث إنما تقع كنتيجة حتمية للوقائع التى سبقتها. بعبارة أخري؛ فإننا نستطيع التنبؤ بما سيحدث من تغيرات فى عمل الساعة ـ وكذلك بالنسبة للكون، طالما كنا نفهم طبيعة النظام والترتيب الذى يحكم عمل أجزائه.
لم يكن من الصعب الإحاطة ببنية الساعة وكيفية عملها، ففى مقدور أى فرد بسهولة، أن يفكك ساعة، ويرى كيف تعمل تروسها وزنبركاتها، ولقد أدى ذلك بالعلماء إلى نشر مفهوم الاختزالية، إن عمل الماكينات مثل الساعات يمكن فهمه باختزاله إلى مكوناته الأساسية.
وبالمثل فإننا نستطيع فهم العالم الفيزيقى، الذى لا يعدو فى النهاية أن يكون مجرد ماكينة، بتحليله أو اختزاله إلى أبسط مكوناته من جزيئات وذرات، وبذلك فقد أصبحت الاختزالية بمثابة الطابع المميز لجميع العلوم ومن بينها علم النفس الحديث.
ترى إذا ما أمكن استخدام استعارة نموذج الساعة ومناهج العلوم فى تفسير عمل العالم الفيزيقي؛ فهل يمكن أن تكون تلك الطريقة مناسبة أيضا لدراسة الطبيعة البشرية؟ وهل إذا ما كان الكون عبارة عن ماكينة تتميز بانضباطها وقابليتها للتنبؤ والملاحظة والقياس؛ يمكننا اعتبار الكائنات البشرية على نفس تلك الصورة؟ هل يمكن اعتبار الناس، بل وحتى الحيوانات، مجرد نوع من الماكينات؟.
ربما يتعجب البعض حين نتحدث عن صلة بين تلك الساعات التى أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، وبين علماء النفس وتطويرهم لعلمهم. لقد كانت عيون صناع علم النفس مصوبة إلى المجتمع حولهم، يستلهمونه الأفكار التى تساعدهم على تطوير علمهم؛ وكانت الساعة الميكانيكية بمثابة النموذج الملهم للنزعة الميكانيكية التى سادت فكر القرن السابع عشر، ويشير المؤرخ دانييل بورستين إلى الساعة باعتبارها «أم الماكينات»، لقد كان للساعات فى القرن السابع عشر وقع تكنولوجي مؤثر، لا يختلف عن وقع أجهزة الكمبيوتر فى منتصف القرن العشرين. لم يكن لأى من الآلات الميكانيكية الأخرى مثل ذلك التأثير على الفكر البشرى فى جميع مستويات المجتمع فى أوروبا، حيث جرى إنتاج الساعات بكميات هائلة وبتنوع كبير.
كانت الساعات فى البداية ـ كما أشرنا ـ ضخمة الحجم؛ وأخذت فى الانكماش شيئًا فشيئًا، شأن العديد من الأجهزة الآلية. ومع التقدم التكنولوجى تطورت الساعات الصغيرة، بحيث أصبح من الممكن أن يحملها الفرد معه أينما كان، كان الناس فى البداية يعلقون الساعات فى سلاسل حول رقابهم كرمز لثراء الفرد، وقد دفع اكتساب الساعات لتلك القيمة الرمزية الدالة على المكانة؛ ببعض المذاهب المسيحية التى تدين التفاخر المظهري؛ إلى الاعتراض على تلك المباهاة، ودعوة الناس إلى الالتزام بإخفائها بوضعها فى جيوبهم؛ ومن تلك المذاهب أتباع الكالفينية وهى مذهب مسيحى بروتستانتى يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسى چون كالفن الذى وضع بين عامى ١٥٣٦م و١٥٥٩م مؤلفه «مبادئ الإيمان المسيحي» والذى يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب فى الحركة البروتستانتية؛ وكذلك أتباع التطهيرية وهى مذهب دينى ظهر فى القرن السادس عشر، وتأثر فى نشأته بالتعاليم البروتستانتية التى تحض على التزام الفرد التزامًا صارمًا بالاستقامة والتواضع فى حياته اليومية، وبدأ بذلك ظهور ساعات الجيب التى ظلت منتشرة حتى القرن العشرين.
وانتشرت الساعات الأكبر المقامة فى أبراج الكنائس والمبانى الحكومية والتى يمكن أن يراها ويسمعها المقيمون حولها على بعد عدة أميال. وبذلك أصبحت الساعات متاحة للجميع بصرف النظر عن طبقته الاجتماعية أو ظروفه الاقتصادية.
ونظرًا لما تتميز به الساعات من دقة وانتظام وقابلية للتنبؤ، فقد بدأ الفلاسفة والعلماء فى النظر إليها باعتبارها نموذجًا للكون الفيزيقى. وربما كان العالم بأسره لا يعدو أن يكون ساعة هائلة صنعها الخالق وزودها بالحركة. ولقد تقبل هذه الفكرة عالم الفيزياء البريطانى روبرت بويل، وعالم الفلك الألمانى جوهان كبلر، والفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت وعبروا جميعًا عن اعتقادهم بأنه يمكن تفسير انسجام الكون وانتظامه فى ضوء انتظام الساعة الذى يودعه فيها صانعها؛ بأنه يرجع إلى ما أودعه الله فى الكون من انسجام وانتظام.
ولقد أعلن الفيلسوف الألمانى كريستيان أون وولف «إن الكون لا يختلف فى سلوكه عن عمل الساعة»، ويمضى تلميذه جوهان كريستوف جوتشيد موضحا أنه «طالمًا أن الكون عبارة عن آلة، فإن ثمة تماثلًا كبيرًا بينه وبين الساعة؛ ومن ثم فإننا نستطيع أن نتخذ من الساعة نموذجًا مصغرًا، يقرب إلى فهمنا بشكل مبسط بما يجرى فى الكون على نطاق أوسع».
عندما ننظر إلى العالم باعتباره آلة تشبه الساعة؛ فإنه سوف يستمر وفقًا لذلك فى العمل بكفاءة دون أى تدخل خارجى، ومن هنا فإن قياس العالم على مثال الساعة، يقوم على مفهوم الحتمية؛ أى الاعتقاد بأن الأحداث إنما تقع كنتيجة حتمية للوقائع التى سبقتها. بعبارة أخري؛ فإننا نستطيع التنبؤ بما سيحدث من تغيرات فى عمل الساعة ـ وكذلك بالنسبة للكون، طالما كنا نفهم طبيعة النظام والترتيب الذى يحكم عمل أجزائه.
لم يكن من الصعب الإحاطة ببنية الساعة وكيفية عملها، ففى مقدور أى فرد بسهولة، أن يفكك ساعة، ويرى كيف تعمل تروسها وزنبركاتها، ولقد أدى ذلك بالعلماء إلى نشر مفهوم الاختزالية، إن عمل الماكينات مثل الساعات يمكن فهمه باختزاله إلى مكوناته الأساسية.
وبالمثل فإننا نستطيع فهم العالم الفيزيقى، الذى لا يعدو فى النهاية أن يكون مجرد ماكينة، بتحليله أو اختزاله إلى أبسط مكوناته من جزيئات وذرات، وبذلك فقد أصبحت الاختزالية بمثابة الطابع المميز لجميع العلوم ومن بينها علم النفس الحديث.
ترى إذا ما أمكن استخدام استعارة نموذج الساعة ومناهج العلوم فى تفسير عمل العالم الفيزيقي؛ فهل يمكن أن تكون تلك الطريقة مناسبة أيضا لدراسة الطبيعة البشرية؟ وهل إذا ما كان الكون عبارة عن ماكينة تتميز بانضباطها وقابليتها للتنبؤ والملاحظة والقياس؛ يمكننا اعتبار الكائنات البشرية على نفس تلك الصورة؟ هل يمكن اعتبار الناس، بل وحتى الحيوانات، مجرد نوع من الماكينات؟.