أبلغ وأعظم، أدق وأرقى، ما يمكن أن يقال الآن عن هيكل.. هو ما قاله هيكل (نفسه).. وهو يلقى التحية ويقول: سلامًا.. لأصدقاء له وأحبة.
مثلما قال هذه الكلمات، فى جمع شرفت بحضوره، بنقابة الصحفيين (فى ٢٠٠٦)، تقديرًا وتكريماً: لاسم وإسهام المفكر الكاتب الكبير محمد سيد أحمد، والذى اتخذ محبوه كلمات هيكل هذه مقدمة لكتاب أصدروه، يعبر عن محبتهم وعرفانهم (نشرته دار الشروق بعنوان «لمحات من حياة غنية» إعداد وتحرير منى عبدالعظيم أنيس فى عام ٢٠١٠).
ماذا قال؟.
قال محمد حسنين هيكل هذه الكلمات المضيئة، المتفردة:
(.. على بالى الآن ثلاثة خواطر:
الأول: إننى لست متحمسًا للطريقة التى نتبعها فى الاحتفال بالراحلين من أحبائنا، خصوصًا إذا كان هؤلاء الراحلون من المفكرين أو الكتاب، فنحن نكتفى بأن نخلع عليهم من الأوصاف مع ذهابهم ما سكتنا عنه فى حضورهم ولو أنهم سمعوه فى أوانه لكان سندًا ودافعًا أكثر على الزيادة والعطاء، لكننا على الأقل أحيانًا نقتصد فى الحضور ونسرف فى الغياب.
الثاني: إننى واحد من الذين يظنون أن الاحتفال بذهاب إنسان إلى ما وراء الحجاب ينبغى أن يجرى على منوال مختلف، خصوصًا فى حالة مفكر أو كاتب، ذلك أن المفكر أو الكاتب لا ينتهى حين يغيب، وإنما يظل حضوره ظاهرًا طالما أن له فكرًا يؤثر وذكرًا يرد مع حضور فكره.
وظنى فى هذه النقطة قريب من التعبير الشائع بأن المحاربين القدامى لا يموتون، وإنما هم مسافرون فى الغروب، تختفى قسمات وجوههم من أمام نواظرنا، ثم تنسحب بعد ذلك أشكالهم وتتحول مع اتساع المسافات إلى ظلال تتصاعد مع الأفق، وهناك يتركز الظل فى نقطة، ثم تتحول النقطة عند الحافة إلى نجم بعيد!
الثالث: إننا فى ثقافات الشرق نتعسف حين نتعامل مع الموت، نتصوره نهاية للحياة، بينما هو حسب ظنى طور من أطوارها، فهذه الحياة بدأت قبلنا وهى مستمرة بعدنا من أزل إلى أبد، وقد نصاب بالشجن والحنين حين يغيب عنا عزيز علينا متحسبين أنها النهاية، لكن ذلك إسراف فى التشاؤم لأن الغياب مختلف عن النهاية!
لعلى أقول إن بعضًا من هذه الخواطر تجلى أمامى ذات مرة وكنت فى زيارة لجريدة الـ«ديلى تليجراف» زائرًا لرئيس تحريرها السير «ماكس هاستنجر»، ثم وجدت بعد خروجى من مكتبه أن واحدًا من محرريه يلاحقنى مسرعًا وفى يده نص مطبوع قائلًا برقة: هذه نسخة من «النعي» (obituary) الخاص بك والموجود عندنا فى المواد الاحتياطية الجاهزة للنشر فى حينه، فهل تريد أن تراجع وتضيف عليه سابقًا أو لاحقًا شيئًا فاتنا فى قصة حياتك؟ ولأول وهلة بدا لى الطلب مستغربًا وربما أكثر، ومع ذلك دعتنى غريزة الصحفى إلى القراءة وفرغت منها وشردت ثوانى أراجع مشاعرى وهى موزعة، ثم أقول لنفسي: ولم لا؟ وأعدت قراءة النص ولم أجد داعيًا لأن أضيف شيئًا، فالمعلومات صحيحة والتقييم بعدها يخص أصحابه، وعلى أى حال، فقد ظلت الواقعة أيامًا ملحة علىّ داعية إلى إطالة التفكير.
وقد أضيفت إليها واقعة ثانية جرت بعد سنوات وهى تكاد تكون تكملة لها وبقية، إذ حضرت قبل شهور احتفالية وداعية للصحفى الإنجليزى الكبير «أنتونى سامبسون» أقيمت فى قاعة «سان مارتن» الكبرى، وكان برنامجها ثلاث قطع موسيقية، أحب «أنتوني» سماعها باستمرار.. وكان الختام كلمة من الصديق الكبير لأنتونى وهو «نيلسون مانديلا» الذى راح بعاطفة دافئة يحكى عن بعض نوادر صديقه.. وعددت ست مرات تبسمت فيها القاعة أو علا صوتها بالضحك أثناء حديث «مانديلا»، وكان نبض الحياة محسوسًا بوضوح مقاطعًا للصمت، وكان الاثنان معًا النبض والصمت مناخًا رقيقًا يحفظ للإنسانية إيقاعها جادًا وجميلًا فى ذات اللحظة!.
وتجلى أمامى رأى العين فى الواقعة الأولى أن الموت حدث طبيعى من داخل السياق وليس من خارجه، وتبدى أمامى بالعين والأذن معًا فى الواقعة الثانية أنه يصح لنا أن نضع المفاجئ الطارئ فى إطار الحى المستمر. ولعلى لا أصدم أحدًا إذا حسبت أن الموت جزء من الحياة بل هو تجديد لها عبر تدفق إنسانى شاءت له عناية الخالق الأعظم أن يتواصل بمثل تواصل الزمن ذلك، أنه بمقدار ما لكل فرد من الناس يوم ميلاد ويوم رحيل فقد نتذكر أن بداية كل يوم فى الزمان شروق، وختام كل يوم فى الزمان غروب، ثم إن الغروب لا ينتهى بالظلام، بل إن ظلام ما بعد الغروب سهر فى انتظار شروق جديد، وكذلك تمضى الحياة غلابة على الموت!).
ثم ليس هناك أبلغ وأعظم، ولا أدق أو أرقى، من أن نختم بما ختم به هيكل (نفسه) حديثه... قال «الأستاذ»، مختتماً:
«دعونى أؤكد فى النهاية أن دور أى كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعًا فى المستقبل وليس كفنًا فى الظلمات. ثم دعونى مشيرًا إلى نجم يلمع بعيدًا عند حافة الأفق أقول له معكم:
ـ تحرك حول مدارك فنحن نراك.
ـ وتكلم عبر كتابك فنحن نسمعك».
مثلما قال هذه الكلمات، فى جمع شرفت بحضوره، بنقابة الصحفيين (فى ٢٠٠٦)، تقديرًا وتكريماً: لاسم وإسهام المفكر الكاتب الكبير محمد سيد أحمد، والذى اتخذ محبوه كلمات هيكل هذه مقدمة لكتاب أصدروه، يعبر عن محبتهم وعرفانهم (نشرته دار الشروق بعنوان «لمحات من حياة غنية» إعداد وتحرير منى عبدالعظيم أنيس فى عام ٢٠١٠).
ماذا قال؟.
قال محمد حسنين هيكل هذه الكلمات المضيئة، المتفردة:
(.. على بالى الآن ثلاثة خواطر:
الأول: إننى لست متحمسًا للطريقة التى نتبعها فى الاحتفال بالراحلين من أحبائنا، خصوصًا إذا كان هؤلاء الراحلون من المفكرين أو الكتاب، فنحن نكتفى بأن نخلع عليهم من الأوصاف مع ذهابهم ما سكتنا عنه فى حضورهم ولو أنهم سمعوه فى أوانه لكان سندًا ودافعًا أكثر على الزيادة والعطاء، لكننا على الأقل أحيانًا نقتصد فى الحضور ونسرف فى الغياب.
الثاني: إننى واحد من الذين يظنون أن الاحتفال بذهاب إنسان إلى ما وراء الحجاب ينبغى أن يجرى على منوال مختلف، خصوصًا فى حالة مفكر أو كاتب، ذلك أن المفكر أو الكاتب لا ينتهى حين يغيب، وإنما يظل حضوره ظاهرًا طالما أن له فكرًا يؤثر وذكرًا يرد مع حضور فكره.
وظنى فى هذه النقطة قريب من التعبير الشائع بأن المحاربين القدامى لا يموتون، وإنما هم مسافرون فى الغروب، تختفى قسمات وجوههم من أمام نواظرنا، ثم تنسحب بعد ذلك أشكالهم وتتحول مع اتساع المسافات إلى ظلال تتصاعد مع الأفق، وهناك يتركز الظل فى نقطة، ثم تتحول النقطة عند الحافة إلى نجم بعيد!
الثالث: إننا فى ثقافات الشرق نتعسف حين نتعامل مع الموت، نتصوره نهاية للحياة، بينما هو حسب ظنى طور من أطوارها، فهذه الحياة بدأت قبلنا وهى مستمرة بعدنا من أزل إلى أبد، وقد نصاب بالشجن والحنين حين يغيب عنا عزيز علينا متحسبين أنها النهاية، لكن ذلك إسراف فى التشاؤم لأن الغياب مختلف عن النهاية!
لعلى أقول إن بعضًا من هذه الخواطر تجلى أمامى ذات مرة وكنت فى زيارة لجريدة الـ«ديلى تليجراف» زائرًا لرئيس تحريرها السير «ماكس هاستنجر»، ثم وجدت بعد خروجى من مكتبه أن واحدًا من محرريه يلاحقنى مسرعًا وفى يده نص مطبوع قائلًا برقة: هذه نسخة من «النعي» (obituary) الخاص بك والموجود عندنا فى المواد الاحتياطية الجاهزة للنشر فى حينه، فهل تريد أن تراجع وتضيف عليه سابقًا أو لاحقًا شيئًا فاتنا فى قصة حياتك؟ ولأول وهلة بدا لى الطلب مستغربًا وربما أكثر، ومع ذلك دعتنى غريزة الصحفى إلى القراءة وفرغت منها وشردت ثوانى أراجع مشاعرى وهى موزعة، ثم أقول لنفسي: ولم لا؟ وأعدت قراءة النص ولم أجد داعيًا لأن أضيف شيئًا، فالمعلومات صحيحة والتقييم بعدها يخص أصحابه، وعلى أى حال، فقد ظلت الواقعة أيامًا ملحة علىّ داعية إلى إطالة التفكير.
وقد أضيفت إليها واقعة ثانية جرت بعد سنوات وهى تكاد تكون تكملة لها وبقية، إذ حضرت قبل شهور احتفالية وداعية للصحفى الإنجليزى الكبير «أنتونى سامبسون» أقيمت فى قاعة «سان مارتن» الكبرى، وكان برنامجها ثلاث قطع موسيقية، أحب «أنتوني» سماعها باستمرار.. وكان الختام كلمة من الصديق الكبير لأنتونى وهو «نيلسون مانديلا» الذى راح بعاطفة دافئة يحكى عن بعض نوادر صديقه.. وعددت ست مرات تبسمت فيها القاعة أو علا صوتها بالضحك أثناء حديث «مانديلا»، وكان نبض الحياة محسوسًا بوضوح مقاطعًا للصمت، وكان الاثنان معًا النبض والصمت مناخًا رقيقًا يحفظ للإنسانية إيقاعها جادًا وجميلًا فى ذات اللحظة!.
وتجلى أمامى رأى العين فى الواقعة الأولى أن الموت حدث طبيعى من داخل السياق وليس من خارجه، وتبدى أمامى بالعين والأذن معًا فى الواقعة الثانية أنه يصح لنا أن نضع المفاجئ الطارئ فى إطار الحى المستمر. ولعلى لا أصدم أحدًا إذا حسبت أن الموت جزء من الحياة بل هو تجديد لها عبر تدفق إنسانى شاءت له عناية الخالق الأعظم أن يتواصل بمثل تواصل الزمن ذلك، أنه بمقدار ما لكل فرد من الناس يوم ميلاد ويوم رحيل فقد نتذكر أن بداية كل يوم فى الزمان شروق، وختام كل يوم فى الزمان غروب، ثم إن الغروب لا ينتهى بالظلام، بل إن ظلام ما بعد الغروب سهر فى انتظار شروق جديد، وكذلك تمضى الحياة غلابة على الموت!).
ثم ليس هناك أبلغ وأعظم، ولا أدق أو أرقى، من أن نختم بما ختم به هيكل (نفسه) حديثه... قال «الأستاذ»، مختتماً:
«دعونى أؤكد فى النهاية أن دور أى كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعًا فى المستقبل وليس كفنًا فى الظلمات. ثم دعونى مشيرًا إلى نجم يلمع بعيدًا عند حافة الأفق أقول له معكم:
ـ تحرك حول مدارك فنحن نراك.
ـ وتكلم عبر كتابك فنحن نسمعك».