السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الأكاديمي والجورنالجي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شاء القدر أن يجمع بين الدكتور بطرس بطرس غالى، الأكاديمى الرفيع المستوى، والأستاذ محمد حسنين هيكل، الصحفى المرموق الذى كان يصف نفسه دائما بأنه «جورنالجى»، فى الحياة كما فى الموت.
الدكتور بطرس غالى الأستاذ الجامعى المتخصص فى القانون الدولى الذى حصل على الدكتوراه من جامعة باريس مارس التدريس فى جامعة القاهرة، وأسهم فى تأسيس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان أحد أساتذتها البارزين.
ولكنه فى فترة ما من حياته وعلى الأخص فى الستينيات عمل بالصحافة، لأنه كلف من الأستاذ هيكل بتأسيس مجلة «الأهرام الاقتصادى» التى كانت أول مجلة مصرية تتخصص فى مناقشة المشكلات الاقتصادية بطريقة علمية رصينة. ونجحت المجلة نجاحا كبيرا، وأصبح لها قراء فى كل العالم العربى، لأنها كانت منبرا حرا لم تكتف بمناقشة الأمور الاقتصادية، لكنها ناقشت بجرأة عديدا من المشكلات السياسية.
وبعد فترة كلف الأستاذ هيكل -بحكم رؤيته الاستراتيجية الثاقبة- الدكتور بطرس غالى، لتأسيس مجلة «السياسة الدولية» التى أصبحت بعد سنوات من صدورها المصدر الأساسى للتحليلات السياسية والاستراتيجية فى كل أنحاء العالم العربى، وتحولت فى الواقع إلى جامعة علمية ينهل من دراساتها ومقالاتها الباحثون الأكاديميون والسفراء والمثقفون.
وهكذا كرس الأكاديمى الرفيع المقام «بطرس غالى» جزءا من وقته ليمارس الصحافة المتخصصة فى الاقتصاد والدراسات الدولية والاستراتيجية.
ومن ناحية أخرى، كان الأستاذ «هيكل» -الذى كان يحب أن يطلق عليه «الجورنالجى» اعتزازا بمهنته كصحفى مهمته الأساسية فى تعقب الأخبار أولا بأول وتحليلها- لديه نزعة أكاديمية بحكم اطلاعاته الواسعة فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ويكشف عن ذلك قراره المبكر بتأسيس مركز الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية فى جريدة «الأهرام» الذى تحول بعد ذلك ليكون مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ليصبح بعد سنوات من تأسيسه المركز العربى الأول فى مجاله الذى صنف فى التقارير الدولية بأنه أهم مركز بحثى سياسى فى العالم العربى بل وفى الشرق الأوسط.
وبحكم انضمامى إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عام ١٩٦٨ بعد رجوعى من بعثتى العلمية إلى فرنسا (١٩٦٤ -١٩٦٧) كخبير منتدب من المركز القومى للبحوث الاجتماعية الجنائية وبعد ذلك عام ١٩٧٥ كمدير للمركز، أشهد أن الأستاذ هيكل الذى كان يدعو الخبراء الاستراتيجيين العالميين لزيارة المركز وعقد ندوات علمية مشتركة بينهم وبين خبرائه كان يحضر كل هذه اللقاءات دون استثناء. ويشارك فى المناقشات ودون ملاحظاته التفصيلية.. لقد كان صاحب عقل أكاديمى بمعنى الكلمة، بالإضافة إلى كونه صحفيا مرموقا درس الصحافة نظريا ومارسها عمليا، أولا كمحرر للحوادث، ثم بعد ذلك كمراسل حربى غطى ببراعة منقطعة النظير الحرب الكورية والحرب الأهلية اليونانية وثورة مصدق فى إيران.
وبعد ذلك برزت نزعات الأستاذ «هيكل» الأكاديمية -إن صح التعبير- لأنه تحول إلى مؤرخ موثوق بتحليلاته فى كتبه المتعددة التى أرخ فيها للثورة ولأبرز الأحداث العربية، وأصبحت بذلك مراجع معتمدة لدى المعاهد الأكاديمية والجامعية بحكم اعتمادها على التوثيق الدقيق، لأنه كان مهتما اهتماما فائقا بالوثائق، وأهم من ذلك قدراته الفذة ليس فقط فى مجال تفسير الوقائع التاريخية، وإنما أيضا فى مجال استشراف المستقبل.
وهكذا تقاطع تاريخ بطرس غالى القامة الأكاديمية والدبلوماسية رفيعة المستوى، والأستاذ هيكل الكاتب الصحفى الأشهر الذى ملأ الدنيا وشغل الناس بمقالاته وتحليلاته وأدائه العبقرى.
مسيرة بطرس غالى فريدة فى الواقع، لأنه عبر الزمن أصبح حجة عالمية فى القانون الدولى، والدليل على ذلك أنه رأس مجامع علمية متعددة فى القانون، غير أن الحدث الأبرز فى تاريخه هو توليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة، ليصبح أول شخصية سياسية عربية تتولى هذا المنصب الرفيع.
ولقد كان بطرس غالى أول أمين عام للأمم المتحدة صاحب خلفية أكاديمية فى القانون الدولى، ولذلك كانت مسيرته فى الأمم المتحدة مبنية على علم وثيق بدقائق القانون الدولى من ناحية ومعرفة وثيقة بالعلاقات الدولية التى حاول أن يسخرها لخدمة أهداف الديمقراطية والتنمية والسلام فى العالم.
وقد خاض بطرس غالى معارك سياسية دولية كبرى خصوصا مع الولايات المتحدة الأمريكية، لحرصه على أن يمارس وظيفته فى إطار من الحيادية والشفافية حتى لو كان ذلك ضد اتجاهات الدول العظمى. وقد دفع بطرس غالى ثمن جسارته فى إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على عدم التجديد له لولاية ثانية.
عاد بطرس غالى إلى وطنه الأم، وأسس المجلس القومى لحقوق الإنسان، وكان له دور بارز فى ترسيخ قواعد حقوق الإنسان فى مصر.
أما الأستاذ هيكل «الجورنالجى» الشهير الذى تحول أكاديميا ليصبح مؤرخا مرموقا، فقد خاض معارك سياسية شتى بعد وفاة جمال عبدالناصر الذى كان هو مستشاره الفكرى الأول، وعينه التى يرى بها العالم، خصوصا فى مجال العلاقات الدولية المعقدة والتى كانت تتطلب متابعة دقيقة للأخبار وقدرة استراتيجية على تحليل مواقف الدول وبصيرة عميقة لاستشراف المستقبل.
وفى عصر أنور السادات -بالرغم من أنه ساعده مساعدة كبرى على تثبيت أقدامه كرئيس للجمهورية- سرعان ما دب الخلاف بينهما بحكم التباين فى الآراء السياسية بينهما بالنسبة إلى قضايا محددة، سواء فى مجال السياسة الداخلية المصرية أو فى ميدان العلاقات العربية الدولية.
وقد دفع الأستاذ هيكل ثمن جسارته فى الدفاع عن آرائه، لأن السادات أصدر أمرا باعتقاله مع عشرات المثقفين والسياسيين المصريين.
وفى عصر مبارك لم تكن هناك علاقة ذات بال بين هيكل وبينه، إلا أن الأستاذ المرموق لم يتوقف عن نشاطه أبدا وإنما بعد ثورة ٢٥ يناير برز بإطلالته التليفزيونية على الجماهير فى أحاديث بالغة الأهمية تتعلق بالتحليل العميق للموقف فى مصر وللسياسة العربية والدولية زاخرة بالمعرفة الدقيقة الموثقة وتتضمن استشرافا دقيقا للمستقبل.
بطرس غالى ومحمد حسنين هيكل جمعت بينهما الحياة ولم يفرق بينهما الموت.