يتعلم الناس من الحياة، من التجارب الشخصية والعامة، ومن تجارب الآخرين حولهم، ولكن الحياة قصيرة جدًا، وغالبًا يكتشف المرء أنها انتهت قبل أن يفهمها أو يتعلم منها، وقبل أن ينضج بما يكفى ليعيشها كما ينبغى.
لذلك اخترع الجنس البشرى الحكايات الخيالية، ليعيش من خلالها حيوات أخرى فوق حياته، يندمج معها بوجدانه ويتقمصها بمشاعره، ويتعلم منها بعقله. أو كما يقول عباس محمود العقاد: «أهوى القراءة لأن عندى حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفينى، والقراءة - دون غيرها - هى التى تعطينى أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق».
يرى عالم الأنثروبولوجى - علم دراسة الشعوب القديمة - جوزيف كامبل، الذى تخصص فى دراسة الأساطير الشعبية الشهيرة، أن للأسطورة وظائف أربع: روحية، وإنسانية، واجتماعية، ونفسية.
الوظيفة الأولى، الروحية، أو الدينية، هى تفسير علاقة الإنسان بالوجود وسر الحياة نفسها. الوظيفة الثانية، الإنسانية تربط الإنسان بغيره من البشر فى الماضى والحاضر والمستقبل، فى بقعة الأرض التى يسكن فيها وفى العالم بأسره. الوظيفة الثالثة، الاجتماعية، تربط المرء بجماعته الصغيرة: العشيرة، القبيلة، الأمة، والوطن. أما الوظيفة الأخيرة، النفسية، فتناقش علاقة المرء بنفسه، بتركيبته الشخصية، وعقده، برغباته ومخاوفه الدفينة، وعلاقته بأسرته الصغيرة، والديه وإخوته.
الأسطورة، ومثلها الفيلم الجيد، يؤديان هذه الوظائف معا. أو بمعنى آخر، يجب أن تتوفر الوظائف الأربع فى العمل الفنى الجيد، حتى لو كانت إحداها تتصدر العمل، فلا بد من توفر الوظائف الأخرى، حتى يمكن أن يكون عملا فنيا حقا.
لو افترضنا مثلًا أننا بصدد فيلم حربى، وطنى، يهدف إلى رفع الهمة والروح المعنوية، ويحث أبناء الجماعة الواحدة على النضال ضد المستعمر، فإن ذلك العمل سيظل مجرد «دعاية» مباشرة سطحية، بلا قيمة فنية، إذا لم يتمتع بتلبية الوظائف الأخرى: يعنى ينبغى أن يناقش فكرة التضحية والفداء بمعناها الروحى، باعتبارها التعبير الأنبل عن الحب، كما ينبغى أن يخاطب المشاعر الوطنية فى أى إنسان، مهما اختلفت جنسيته والزمن الذى يعيش فيه، وليس أبناء العشيرة أو الوطن فقط. وقبل كل هذا يجب أن يشاهده كل متفرج وكأنه يتحدث عنه شخصيًا، عن مخاوفه هو من الموت والإصابة، ومن التنازل عن حياته المرفهة وأسرته الصغيرة، وعن رغباته الأعمق فى أن يكون بطلًا، يضحى بالرخيص والنفيس، وبالنفس كلها، فى سبيل الآخرين.
فى هذه القدرة الفذة على النسج المتكامل للوظائف الأربع فى ضفيرة واحدة تتميز الأسطورة أو الرواية، أو الفيلم السينمائى، عن غيرها من أشكال الإنتاج الفكرى، وبها يتميز الفنان الحقيقى عن باقى البشر، وبالتحديد عن رجل الدين الذى لا يكف عن الوعظ الممل، وعن الفيلسوف الذى يصيغ أفكاره فى لغة مجردة، وعن الزعيم الذى يلهب الشعب بالحماس المؤقت، وعن الطبيب النفسى الذى يعالج مريض القلق بحبة دواء، أو جلسة نقاش باردة.
الأمثلة أكثر من أن تحصى، ولكن يمكن أن تحاول تطبيق الكلام السابق على عمل فنى متميز ومعروف للقارئ، مثل فيلم «الأرض» للمخرج يوسف شاهين.
العمل الفنى العظيم هو الذى يجعل كل قارئ أو مشاهد له يتأثر كما لو كان مكتوبًا عنه شخصيًا، وهو الذى يقوى علاقة هذا المشاهد بأهل جماعته، وبإخوته فى الإنسانية عامة، وفوق هذا كله يخاطب الجانب «الإلهى» من هذا القارئ أو المشاهد، الذى يتعلق بالأخلاق والسمو والنبل ما وراء هذه الحياة القصيرة، المنحطة، والعابرة.
يمكن أن أصوغ الفكرة عن الفارق بين العمل الفنى وغيره من أشكال الخطاب الثقافى فى فكرة أخرى. فى بداية حياة الفرد، وفى بداية حياة الجنس البشرى، يستقبل المرء العالم من خلال «إدراك كلى» للحواس والعقل معًا، ولكن فيما بعد يتعلم الفرد، كما تعلم الجنس البشرى، أن يفرق بين إدراكات الحواس المختلفة وأن يقسم إدراكه العقلى لأنواع وطبقات، فالطريقة التى نستقبل بها درسًا علميًا فى المدرسة تختلف عن الطريقة التى نستقبل بها درسًا دينيًا تختلف عن الطريقة التى نستقبل بها أحاديث الأصدقاء، عن الطريقة التى نتعلم بها مهارة يدوية ما. يتعلم المرء أن يميز بين «العلم» و«المعرفة». الفارق بين الفن وأشكال التحصيل العلمى والمعرفى الأخرى أن العمل الفنى يخاطب مراكز المخ كلها: الحواس والتعرف والتخيل والتعلم والذاكرة والتحليل والتأمل.. أى الإدراك الكلى للمتلقى عوضًا عن الإدراك الجزئى الذى توفره أشكال الخطاب الأخرى.
من هنا يأتى تميز الفن وقدرته على التأثير الكلى على المتلقى، وأعتقد أن هذا «التأثير» هو سبب عداء كثير من رجال الدين والسياسة والعلم للفنون وترويجهم لفكرة أن الفن منتج «أقل شأنا» و«أقل قيمة»، بل و«مضيعة للوقت»، وربما منتج «ضار» أيضًا، من وجهة نظر رجال الدين، لأنه يخاطب الغراز، ومن وجهة نظر العلماء لأنه يخاطب الخيال، ومن وجهة نظر السياسيين لأنه يخاطب عقل الطفل الحر لا عقل الجماعة.
عندما أنظر لحياتى أجد أننى تعلمت من الحكايات الخيالية والأدب والسينما أكثر بكثير جدًا مما تعلمته من المدرسة أو الكتب الدينية أو تجاربى المحدودة فى الحياة. وأفكر منذ فترة فى الكيفية التى أسجل بها هذه المعارف.
من السهل أن يتحدث المرء عما تعلمه من شخص أو كتاب علمى أو فلسفى، وقد كتبت بالفعل عن بعض الأشخاص والكتب التى أثرت فى حياتى، ولكن كيف يكتب المرء عما تعلمه من رواية ما، أو فيلم سينمائى، أو لوحة تشكيلية؟
هذا السؤال وراء كتابة هذا المقال، ومحاولات الإجابة عنه ستكون شاغلى لعدة مقالات قادمة.