فى ظروف قاسية ومريرة تمر بها الأمة العربية الجريحة التى يتهافت على الفتك بها أعداء كثيرون، فى ظل ظروف نحن أحوج ما نكون إلى حتى أضواء خافتة من الأمل، فى ظل أجنحة جارحة ترمى بظلالها المعتمة على قلوبنا، فى ظل ظلمات تجتاح حجرات قلوبنا وتغطيها، فى ظل كل هذا كان لنا أن نتذكر أبطالا عظاما أحبوا هذه الأرض فى ظروف أكثر قسوة مما نحن فيه.
سعد الدين الشاذلي.. رجل من الطراز النادر، أحب أرضًا لن تنساه حتى فى غياهب الزمن، لن تنسى مصر ضلعًا من ضلوعها، ورجلا خرج من عصارة نبض قلبه، حتى ألد أعدائه إسرائيل قالوا إن الجنود المصريين أتوا بما خططه الشاذلى بمعجزة عالمية، وبتخطيط عسكرى من طراز يفوق حتى روميل، ومونجمرى أعظم القيادات العسكرية الأوروبية.
فى ذكرى غالية عندما أتحدث عن سعد الدين الشاذلى فإننى أتحدث من قلبى وجوارحى أتحدث من الذاكرة عن قيم عظيمة كانت لنا مثلا عاليًا أثناء التعليم الجامعى، كنا نقارن بين العبقرية العسكرية لهذا الرجل والعبقرية العسكرية لخالد بن الوليد وطنيًا متدينًا قادرًا على الإبداع فى أحلك أيام العسكرية المصرية، قادرًا على البناء وسط الدمار الطاحن بعد هزيمة 67.
لكم تمنيت أن أدخل داخل عقل وقلب هذا الرجل العملاق ليلة 8 يونية 67، فى أيام سوداء كاحلة عصفت بكيان الجيش المصرى الذى لم يحارب فى أيام كان كل شيء فيها يأتى من قلب الظلمات والحطام ولكن... الشاذلى العاشق لمصر بقوات الصاعقة المسماة بقوة الشاذلى استطاع الوصول بقواته إلى خلف خطوط العدو داخل حدود فلسطين مسافة 5 كيلومترات إلى أن استطاع الاتصال بالقيادة العامة وصدرت إليه الأوامر بالانسحاب. كيف تنسحب تحت سماء مكشوفة 200 كيلومتر بدون أى غطاء جوى وسط انتصار دوى ساحق للعدو.
ولكن الشاذلى وبعبقرية عالية وقلب ينبض بالطاقة والإيمان بالله تعالى ووسط كل خطوط العدو وتحت نيرانه استطاع برجال قلوبها من فولاذ أن يتخطى 200 كيلومتر فى أرض العدو بخسائر لا تتعدى 12% من جنود ومعدات محققا إنجازا عالميا يدرس فى المعاهد العسكرية العالمية، وكان بهذا الانسحاب آخر جندى يعبر القناة بعد هزيمة 67 ، قمة فى الأداء والإبداع وحرية الحركة، كان دائما محل حب وعشق جنوده.
لا أستطيع أن أحكى كل شيء عن الرجل فى سطور معدودة ولكن هنا سوف أذكر فقط نموذجا علميا يدرس الآن على المستويات العلمية للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه إلا وهو نظرية التحسين المستمر للعمليات. أو ما يسمى Continuous improvement ويوجد هناك العديد من النظريات الموجودة التى يعرفها جيدا طلاب تخصصات المحاسبة وإدارة الأعمال والعديد من التخصصات الأخرى، تقوم هذه المنهجيات على فكرة أنه ليس هناك سقف محدد ونهائى لمستويات الجودة فى العمليات والتشغيل، فنحن فى حالة مستمرة من الحركة والتفاعل والتجدد والصعود بمستويات الأداء من يوم إلى آخر بشكل لا يتوقف.
الأهم هو أن تلك المساهمات والاقتراحات التى تشارك فى عمليات التحسين المستمر لا تأتى من أعلى الهرم الإدارى كما هو الوضع التقليدى المتعارف عليه، هذه الاقتراحات تأتى من المستويات الإدارية الصغرى والتى تتولى عمليات التنفيذ والتشغيل الفعلى (مثل عامل تشغيل ماكينة أو موظف أو مهندس بسيط أو حتى عامل عادى) لأنهم هم الأقرب للرؤيا والملاحظة للقصور والأخطاء التى يمكن التخلص منها لو تم القيام ببعض التعديلات.
المهم أن الفريق سعد الشاذلى طبق كل هذه النظريات عندما ابتدع ما يسمى بالتوجيهات التى وصلت إلى 48 توجيهًا إلى إدارات القوات المسلحة. يذهب إلى وحدات القوات المسلحة ويحضر المناورات ويتابع مستويات الأداء، ويدون نقاط القوة والضعف واضعا فى اعتباره المستوى المتدنى لتكنولوجيا الأسلحة التى يمتلكها الجيش المصرى مقارنة بتسليح العدو، يتحدث الشاذلى دائما وأبدًا عن قدرة مصر وحب أبنائها والانتماء إلى الأرض والتراب، دائما الشاذلى فى حالة من الشغف بمعنويات جنوده ووضعيتهم النفسية.
الرجل يتحرك كالصقر وسط حوامات من التوتر الكامن داخل قلبه، يحب بلده ويعشقها، لا يتحمل أن يكون هذا هو حال مصر، لديه مستويات متدنية من الإمكانيات التسليحية لا تقارن بأى حال مع السلاح الإسرائيلى المتفوق 10 سنوات على الأقل، الرجل يدرك تماما قدرة الجندى المصرى وهو منهم، كان عليه أن يتعامل بعبقرية غير مألوفة وخارج نطاق الزمن، كان عليه أن يراهن على الإنسان المصرى وقد فعل وكان قلبه دليله ورمال سيناء هى مساحات الحرية التى سوف يتحرك فيها مدفوعا بطاقة رائعة من قلب من فولاذ خالف كل أعراف الفكر العسكرى على كل مستويات التاريخ.
التوجيه ( 41 ) من أبرز ما فعله الفريق الشاذلي فى رهانه على رجاله أنه ابتدع ما يسمى بالتوجيهات والتى كان من أهمها التوجيه (41)، قام بتوزيع التقرير على الدارسين في كلية القادة والأركان (وقد تم اختيار هذا المكان بعناية شديدة) وكانوا من خيرة القادة الميدانيين الذين تم اختيارهم في امتحانات قاسية لاختيار 150 دارسا من 1500 متقدم للامتحان، وبعد دراستهم للتوجيه قام بالذهاب للكلية ليمضي ثلاثة أيام في نقاش يبدأ من الصباح الباكر وينتهي بالليل، وكان ملما بكل التفاصيل الدقيقة.. وسمح بنقاش ديمقراطي.. علمي.. عسكري.. ميداني.. وتم جمع كل الحلول المصرية من كل مستويات القادة الميدانيين الذين يمارسون القتال من يونيو 67 وطوال المعارك شبه اليومية لحرب الاستنزاف التي شملت بمعاركها كل صنوف القتال مع العدو والعبور إلى سيناء بمستوى محدود من القوات واشتباكات بالمدفعية والطيران وأبطال الدفاع الجوي والمخابرات والاستطلاع خلف خطوط العدو.
بهذه التوجيهات وهذا التوجيه العبقرى استطاع الشاذلى أن يضع خطا مترابطا وكأنه خيوط العنكبوت بين خمسة مستويات من القيادات لديها إلمام كامل بتفاصيل العمليات وتستطيع أن تقوم بتوصيل هذا الفكر المترابط على جميع مستويات التصنيف العسكرى حتى الجندى الميدانى، واستطاع جنوده أن ينفذوا فى سيمفونية رائعة أوتارها الحديد والنار عبورا ونصرا واكتساحا لأعظم قوى الأرض، لقد آمن الشاذلى بجنود ذاقوا هزيمة خارج نطاق إرادتهم وتحكمهم وبعث فيهم الأمل والقوة والحياة، هذا هو السلاح الحقيقى الذى حاربت به مصر وانتصرت فى 73.
رحمة الله على سعد الدين الشاذلى.. ركنًا من أركان الجيش المصرى، ظلمه الناس وأهانه السادات رغم حبى للسادات، وسجنه مبارك 3 سنوات بتهمة الخيانة العظمى، أيسجن سعد الدين الشاذلى، والله هذا من قمة السخرية.. ولكن مصر لن تنساك ولن تنساك القلعة العميقة للجيش المصرى.