بعد شهور قليلة وبينما كان عبدالفتاح السيسى لا يزال وزيرًا للدفاع، يباشر عمله فى محاربة الإرهاب نزولا على التفويض الذى طلبه لمواجهة العنف المحتمل، سجلت فى برنامج تليفزيونى ما ردده البعض بعد ذلك، من أن السيسى هو الرئيس الضرورة، فهو وحده المؤهل لقيادة الوطن فى لحظة فارقة يعرف الجميع تفاصيلها ومدى اضطرابها، لم أكن وقتها أجامل من حمل رأسه على يديه، متحديًا العالم كله، من أجل تحرير شعب كان على وشك السقوط فى هوة جماعة ليست أكثر من عصابة، ولكنى كنت أرى الأمر بعين الإنصاف.
لقد شعر المصريون مبكرًا بأن عبدالفتاح السيسى لن يخذلهم، وأعتقد أن أسطورته تكونت فى الوعى المصرى بالتدريج، طالبوه بأن ينقذهم، قبل أن تكون هناك فكرة عامة فى الشارع المصرى لعزل الرئيس الإخوانى محمد مرسى، فى ٧ إبريل ٢٠١٣ حدث اعتداء صريح على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، هتف الأقباط يومها هتافًا مؤسسًا فى علاقة المصريين جميعًا بالسيسى، قالوا له بصراحة ووضوح ودون مواربة: انزل يا سيسى.
كانت هذه دعوة صريحة للرجل، الذى كان يعده القدر لدور المنقذ، أن يتحرك، أن يخلص الوطن من حالة الفوضى التى ضربته تحت حكم الإخوان المسلمين، اختار السيسى أن يتحرك فى إطار القانون، أخذ قرارًا وانتظر، استقر على أنه إذا نزل الناس إلى الشوارع متظاهرين ضد الإخوان، ومطالبين بعزل مرسى، فلن يلتزم الصمت، بل سينحاز على الفور للشعب، فلم يتعود الجيش أن يخذل شعبه أيضًا.
حاول السيسى جاهًدا ألا يصل الصدام بين الشعب والرئيس إلى منطقة اللا عودة، قدم النصائح، ووضع الحلول، ومنح الفرص، وعمل جاهدًا على نزع فتيل الأزمة، وعندما وجد أن الإخوان يسيرون بإصرار إلى حتفهم، تركهم وشأنهم، ووقف إلى جوار الشعب الذى تطلع إليه وحده، من أجل إنقاذه وإسعاده.
فى قرارة نفسه يعرف عبدالفتاح السيسى أنه لم يكن طالب سلطة، بحث كثيرًا عمن يرشح نفسه للرئاسة، رفض فى البداية أن يكون هو، ثم أصر على ألا يفعلها إلا بمطالبات شعبية واضحة لا تقبل تأويلا، لم يخذله الشعب، نادى به وهتف باسمه، وجعل منه رئيسًا حتى قبل أن يرشح نفسه، وقبل أن يخوض السباق الانتخابى، وقبل أن تعلن النتيجة، والحقيقة أن المصريين منذ ٣ يوليو ٢٠١٣، لم يروا لهم رئيسًا إلا عبدالفتاح السيسي.
حاول السيسى أن يكون واضحًا، أراد أن يؤسس لعقد اجتماعى جديد مع المصريين، فهو لن يعمل وحده، لابد أن يقف الجميع إلى جواره، يؤدى كل منا دوره، دون أن يعرف، ربما أن هذه ليست عادة المصريين، فهم يتعبون جدًا من أجل اختيار رئيسهم، ورفعه إلى كرسى السلطة، وبعد ذلك يعودون إلى بيوتهم منتظرين أن يقوم الرئيس نيابة عنهم بكل شىء، وإذا أخفق حاسبوه حسابا عسيرا، ولا مانع لديهم من أن يسخروا منه، وهو ما يضع الرئيس فى حيرة، ويدخله أرض الارتباك من أوسع أبوابها، ففى لحظة يجد نفسه غريبًا عن شعبه، وربما يسأل: هل هذا الشعب الذى هتف له، هو نفسه الشعب الذى يسخر منه، وينتقده، ولا ترضيه إنجازاته، مهما كانت قيمة وأهمية هذه الإنجازات؟
سأكون ظالمًا إذا قلت إن السيسى خذل من طالبوه بأن ينزل، ومن ألحوا عليه بأن يرشح نفسه للرئاسة، ومن اختاروه بالفعل رئيسًا، لكننى سأكون مغيبًا أيضًا إذا اعتبرت أن كل شىء على ما يرام، لا أنكر على الرئيس جهوده وحسن نواياه ورغبته فى التغيير، لكنى لن أغشه وأقول له إن الشعب راضٍ وسعيد ومبسوط.
لا يكفى أن تكون لدى السيسى الرغبة فى العمل، لا بد أن يكون لدى كل من حوله نفس الرغبة، هؤلاء الذين لا نعرفهم بشكل جيد، ولا نعرف أدوارهم بدقة، لكن ما يصلنا عن أدائهم ومنه يشير إلى أن هناك خللًا كبيرًا، يبدو السيسى متابعًا لما يحدث على الأرض، لكن يبدو أيضًا أن الصورة لا تصله بدقة، فهل هناك من يحجب المعلومات عن الرئيس، هل هناك من يقف حائلًا بينه وبين أجهزة معلوماته، هل هناك من يريد أن يصادره لنفسه أو لمكتبه، فلا يعرف إلا ما يريد أن يمرره له.
إننى أعيد على مسامع السيسى نفس الهتاف القديم: انزل يا سيسى، مصر لا تحتاج الآن إلا شيئا واحدا هو العدل، به يستقيم كل شىء، المشروعات الكبرى مهمة، الافتتاحات المتتالية مهمة، الحديث عن خطط واستراتيجيات مهم وضرورى، الوعود التى لن تنتهى لا بأس بها ولا منها، لكن الناس تريد أن تشعر أن هناك مستقبلًا، تريد أن تطمئن على أيامها المقبلة، هناك من يقلب الناس على نظامك، والناس لا ينقلبون بالشائعات ولكن بالحقائق، فأدرك نفسك ونظامك، فالشعوب عندما تغضب لا تفرق بين من تحب ومن تغضب.... انزل يا سيسى على الأرض، واجه أزمات مصر بشفافية ووضوح، الشعب هو الذى سيحميك إذا وقفت فى صفه، فبدونه لا عاصم لك، لقد أخلصت لهذا الوطن، وأشفق عليك أن تنتهى نهاية من لم يخلصوا له أبدًا.