تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تحدثنا في الحلقات السابقة عن تصنيف جماعة الإخوان من الناحية العقدية، فلم نقف لها علي انتماء لفرقة من الفرق التي أشرنا اليها ولم نتمكن من تصنيفها على أنها تمثل فرقة الخوارج أو أنها إحدى فرق الشيعة أو انها تمثل المرجئة لوجود الكثير من أوجه التشابه بين الجماعة وبين هذه الفرق بقدر وجود الكثير من الاختلافات التي تجعلك غير مطمئن الضمير حينما تصنف جماعة الاخوان على أنها واحدة من هذه الفرق لانها تأخذ من كل واحدة منها بقدر ما يناسب تكوينها العام. والحقيقة ان الميوعة العقدية لدي الجماعة تصعب مهمة الباحث عن التصنيف الحقيقي لها بين الفرق والمذاهب الإسلامية.
في هذه الحلقة ندخل منطقة اخري لعلنا نجد فيها اجابة علي سؤالنا الأول عن ماهية جماعة الإخوان من الناحية العقدية، وهي منطقة الفرق الكلامية وهل يمكن اعتبارها واحدة منها أم لا؟
يميل معتقد الإخوان في باب توحيد أسماء الله الحسني وصفاته العلا إلى المنهج الكلامي ورغم عدم تركيز الجماعة على هذا الباب الذي هو أصل الدين واشرف العلوم الذي به يتعرف العبد علي معبوده، الا انه يمكنك ان ترى المنهج الكلامي واضحا جليا يتأرجح بين المعتزلة والأشاعرة في رسالة العقائد لحسن البنا، حيث يري أن الخلاف في "أصول الدين" أمرا هينا وليس مهما، فيقول تحت عنوان "ترجيح مذهب السلف": "ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني- اي معاني اسماء الله وصفاته- إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع، حسما لمادة التأويل والتعطيل، فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان ، وأثلج صدره ببرد اليقين، فلا تعدل به بديلا، ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديما وحديثا ، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله".
سبحان الله العظيم مؤسس الاخوان "المسلمين" يرى أن صدر الإسلام أوسع من الاختلاف حول توحيد الله عز وجل الذي هو أصل الدين وحق الله علي عباده وأول ومنتهي دعوة الرسل جميعا، ثم يلجأ لشبهة اخري لتأييد مذهبه الكلامي في ادعاء ان أئمة السلف لجأوا إلى التأويل العقلي الذي لا سند له من الشرع فيقول:
"وقد لجأ أشد الناس تمسكا برأي السلف ، رضوان الله عليهم، إلى التأويل في عدة مواطن، وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، من ذلك تأويله لحديث : (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) وقوله صلى الله عليه وسلم :(قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) وقوله صلى الله عليه وسلم : (إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن) .
وقد رأيت للإمام النووي رضي الله عنه ما يفيد قرب مسافة الخلاف بين الرأيين مما لا يدع مجالا للنزاع والجدال، ولا سيما وقد قيد الخلف أنفسهم في التأويل بجوازه عقلا وشرعا ، بحيث لا يصطدم بأصل من أصول الدين ".
ويظهر البنا ميوله الاعتزالية عندما يفسر ما ذهب اليه باستشهاده بأحد ائمة المعتزلة وهو فخر الدين الرازي فيقول:
"قال الرازي في كتابه "أساس التقديس" -ومن المعروف ان هذا الكتاب من اهم كتب المعتزلة: ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ، وإن لم نجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات، وبالله التوفيق".
ثم ينهي بحثه في العقائد بإحدى أكبر الطوام العقلية التي اضاعت المنتمين للجماعة بين سجين ومشرد ومطرود ومن طار عقله، قبل ان تشعل العالم الاسلامي بالكوارث التي نشأت عن الجماعات المنبثقة عن الاخوان والتي استغلها اعداء الأمة في تنفيذ مآربهم الخبيثة في تفتيتها والإجهاز عليها فيقول:
"وخلاصة هذا البحث أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة، واتفقا كذلك على أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع، وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم ، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، والله حسبنا ونعم الوكيل"، (راجع: حسن البنا، مجموع الرسائل)
والفقرة الأخيرة من كلام البنا تحمل الكثير من الاضطراب والتباين فهو يقول إن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز في حين أن الجماعة قامت في الأساس علي التأويل الباطل مخالفة للشريعة بحجة تحقيق مصالح المسلمين، ثم انظر إلى ضربه عرض الحائط بقول الله تعالي في سورة الذاريات: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) ( 56 ) وهدم الغاية التي خلق من أجلها العباد تحقيقا لغاية الجماعة في قوله "وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف"! فيرى حسن البنا ان التلاعب بصفات الله عز وجل وتعطيلها وتأويلها بما يخالف الشرع "أمر هين" ولا توجب الخلاف بين المعطلة والمشبهة والمجسمة والشيعة ولا تستدعي تصدي أهل السنة والحديث لهم فالمهم لديه هو "توحيد الصفوف" أما "توحيد الله" فإنه شيء ليس مهما بجانب هذه المهمة العظيمة فأي صفوف إذن يمكن أن تتوحد أن لم يظلها في الأساس توحيد الله وإثبات ربوبيته والوهيته واسمائه وصفات كماله وجماله وجلاله وتصديق خبره وتنفيذ أمره ونهيه؟!
ولا شك أن هذه الفقرة "الصغيرة" من رسالة العقائد لحسن البنا تكشف وحدها منهج الاستسحان العقلي الكلامي لدي حسن البنا وجماعته التي سارت علي طريقته فيما بعد واجتذبت اليها كل من فضل العقل القاصر وقدمه علي شرع الله عز وجل من دعاة التحرر من التقيد والتعلق بالخالق جل شأنه مثلما هو الحال فيمن يقدسون كتابات سيد قطب من الأدباء والمفكرين باعتباره انتصر للعقل علي الموروث من السلف في التفسير وغيره من المباحث الدينية ، رغم ان العقل لا يمكن أن "يعقل" أو يرى إلا في نور الله وشرعه وفي ذلك يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "كما أن نور العين لا يري إلا مع ظهور نور قدّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة".
وآفة كل الفرق المنحرفة عن الصراط المستقيم هي تقديم العقل علي النقل في التوحيد الذي هو اصل العبادة وهو ما نشأ عنه الاختلاف والانحراف عن هدي النبوة في كل فروع الدين اذ كيف تقيم الصلاة والزكاة والصيام والحج وأنت لا تعرف من تعبد ولا تعرف صفاته وأسماءه وترى أنها من الغوامض التي لم يفسرها النبي صلي الله عليه وسلم ولم يعلمها الصحابة رضوان الله عليهم، ومن ثم أطلقوا العنان للعقل فيها بحجة تنزيه الله عز وجل فظهرت الفرق الكلامية التي اعتمد علي تأويلاتها وتفسيراتها حسن البنا وجماعته في فهم العقيدة وعلي رأسهم المعتزلة.
نأتي إلي تفسير القرآن المعتمد لدى الجماعة، وهو تفسير ظلال القرآن لسيد قطب والذي يعتمد في مجمله علي الفكر الكلامي والذي يعتبره الباحثون امتدادا لتفسير "الكشاف" للزمخشري المعتزلي ويعتبر الدكتور محمد رفعت زنجير في كتابه "التجديد في منهجية التفسير بين الزمخشري وسيد قطب" ان منهج التصوير الفني الذي اعتمد عليه سيد قطب في الظلال قد استقي مادته من الزمخشري.
ويمكنك ان تري اثار ذلك في كتابات سيد قطب نفسه الذي لم يكذب اعتماده علي منهج الاستحسان العقلي، يقول سيد قطب:
"وأنا أجهر بهذه الحقيقة الأخيرة وأجهر معها بأنني لم أخضع في هذا لعقيدة دينية تغل فكري عن الفهم". (انظر: التصوير الفني لسيد قطب)
ويقول ايضا في الكتاب نفسه: "منذ سبعة أعوام صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب وأحمد الله على أن صادف التوفيق فقوبل من الأوساط الأدبية والعلمية والدينية على السواء مقابلة طيبة إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الدين لا يقف في طريق البحوث الفنية والعلمية التي تتناول مقدساته تناولاً طليقاً من كل قيد وعلى أن البحوث الفنية والعلمية لاتصدم الدين ولا تخدشه حينما تخلص فيه النية وتتجرد من الحذلقة والادعاء وأن حرية الفكر لاتعني حتما مجافاة الدين كما يفهم بعض المقلدين في التحرر.
ويضيف قطب: منهجنا في استلهام القرآن الكريم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقًا لا مقررات عقلية ولا مفردات شعورية - من رواسب الثقافات التي لم نَسْتَقِهَا من القرآن ذاته - نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة لقد جاء النص القرآني-ابتداء- لينشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر وأن تقوم عليها حياتهم وأقلّ ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير وهذه الرعاية من الله ذي الجلال-وهو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل ليقوم تصورهم الجديد نظيفا من كل رواسب الجاهليات- قديمها وحديثها على السواء- مستمدا من تعليم الله وحده لا من ظنون البشر التي لا تغني من الحق شيئا!
ويقرر: ليست هناك إذا مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداء ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا وهذا وحده هو المنهج الصحيح في مواجهة القرآن الكريم وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته. (انظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)
فالشيخ هنا يرى ان هذا المنهج وحده هو المنهج الصحيح في تفسير كتاب الله، كما يعتبر التفسيرات السابقة له من "الجاهليات"!