150 عامًا هي عمر البرلمان المصري.. تاريخ طويل من العمل البرلماني الذي كان يضع أجندته الملك ثم الرئيس. فالخديوي إسماعيل أنشأ البرلمان وأسماه مجلس شورى النواب، وكان الهدف أن يكون لدى مصر شكل وتركيبة السلطة في الدول العظمى آنذاك، إلا أنه قام بتعيين النواب فكان الأداء شكليًا غير مستقل عن السلطة يتبع خطى الخديوي، دخلت تعديلات كثيرة على شكل البرلمان إلى أن وصلنا لمرحلة الرئيس المسيطر على البرلمان بالحزب الحاكم، وكان خطاب الرئيس هو الذي يضع الأجندة التشريعية للمجلس، فخف تأثير البرلمان، وعظم تأثير الرئيس وتدخلاته، فكانت العلاقة الملتبسة بين الرئيس والبرلمان أو تبعية السلطة التشريعية للتنفيذية مؤثرة بشكل عام على الأداء البرلماني وبالتالي لم يكن معبرًا بما يكفي عن نبض الشارع المصري الحقيقي مما أسهم في انهيار النظام في 25 يناير .
وجاء خطاب السيسي الموجز، اليوم، أمام البرلمان ليرسخ العلاقة الجديدة التي صنعها دستور 2014، بين السلطات، فالرئيس لأول مرة في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية لا يسيطر على البرلمان ولا يرأس حزبًا حاكمًا ولا يضع عبر خطابه الافتتاحي أجندة العمل البرلماني، فهو لا يملك دستوريًا أي وصاية على السلطة التشريعية، وأي تشابه بين رؤي الرئيس ونواب الشعب مبعثه رغبة النواب في التماهي مع أجندة الدولة المصرية التي تحاول العودة واستعادة مكانتها في نفوس المصريين والعرب والأجانب.
ربما حاول الرئيس أن ينبه النواب إلى ما يحاك ضد البلاد من تآمر شرس يسعى بقوة لجذب مصر مرة أخرى لدائرة الفوضى المدمرة المحيطة بنا ونجحت بالفعل في العصف بدول جارة وشقيقة، مشددًا على أن الخطر لم ينته وكان دقيقًا في وصف ما يحاك ضد مصر، "التربص" وهي مرحلة تالية على نجاح الدولة المصرية في إبطال مفعول المخطط وإجهاضه في ثورة 30 يونيو، فمن خطط لتدميرها وتقسيمها لن يتراجع. وتماسك الدولة المصرية واكتمال بنائها الدستوري وشخصيتها القانونية بوجود دستور ورئيس منتخب وبرلمان يمثل كل أطياف المجتمع المصري هو سلاح الشعب المصري الوحيد فى مواجهة ذلك المخطط الشرس الذي يسعى لتدمير الدولة المصرية وعودة الفوضى كما كانت عقب 25 يناير .
اكتفى الرئيس بتقديم كشف حساب لنواب الشعب عن ما تم إنجازه وهو كثير في وقت قياسي، وكان محددًا فيما تمكن من تحقيقه للمواطن المصري من حل لأزمة الكهرباء والطرق، وتنفيذ مشروعات عملاقة مثل قناة السويس الجديدة ومحور شرق التفريعة والمليون ونصف المليون فدان، وإنشاء مصانع ومطارات ضمن محاولات جذب الاستثمار الأجنبي الذي يواجه بصعوبات عديدة تأتي ضمن محاولات التربص بالدولة المصرية.. بالإضافة إلى الإنجاز الكبير فى مجال السياسة الخارجية بعضوية مصر غير الدائمة في مجلس الأمن ورئاسة لجنة مكافحة الإرهاب، كما وضع الرئيس أمام نواب الشعب ما يمكن أن نطلق عليه مقترحات رئاسية بالقضايا المطلوب من البرلمان التركيز عليها، وهي أولويات لدى الدولة المصرية كان على رأسها التعليم الذي وصفه بالأمن القومي لمصر ثم الصحة والإعلام وتجديد الخطاب الديني والاهتمام بمحدودي الدخل والشباب والمرأة التي شدد على أنها صوت ضمير الأمة النابض بعشق الوطن، وهو ما يعكس اهتمام الرئيس المتزايد بدور المرأة المصرية في حماية المجتمع والحفاظ عليه من الانهيار ، منوهًا باهتمام الدولة المصرية بضخ دماء جديدة في شرايين النخب السياسية المتوقفة على عدد من الأسماء الموروثة من حقبة السبعينات.
كان ينتظر بعض الإعلاميين من منافقي الغاضبين أن يتحدث الرئيس عن أزمة نقابة الأطباء، دون سبب مقنع لهذا التوقع، وكأنهم يريدون للدولة أن تخضع لابتزاز فئة تريد النيل من أخرى بعيدًا عن تطبيق القانون، ولم يتوقف أحدهما ليسأل نفسه هل هناك إجماع على قرارات النقابة بين الأطباء أنفسهم، وأنقل هنا عن الصديق الدكتور إبراهيم مجدي طبيب الأمراض النفسية والعصبية في جامعة عين شمس وصفه لما جرى أمام دار الحكمة بأن نقابته "خضعت لراكبي الموجة والانتهازيين والوصوليين من السياسيين الفشلة الذين يحاولون بشتى الطرق استغلال اجتماع الجمعية العمومية للأطباء لصالحهم". وآراء عشرات الأطباء التي أكدت رفضهم لما حدث بنقابتهم من استغلال سياسي واضح لأزمة ذوي المعاطف البيضاء، كان يمكن تداركها بين نقابة الأطباء ووزارة الداخلية أو عبر حوار يراعاه البرلمان، لكن هناك من يريد ابتزاز الدولة المصرية بهذا الموضوع وتكريس صورة الدولة البوليسية حتى يقتات عليها الإعلام المتربص الساعي دائمًا لتنميط الدولة المصرية في هذا الاتجاه منذ 30 يونيو وحتى الآن.
باختصار.. ألقى اليوم الرئيس بكلمته الكرة في ملعب نواب الشعب والمجتمع المدني والأحزاب والقيادات المحلية، من خلال حديثه عن البناء الذي يحتاج منا جميعًا التكاتف من أجل دعمه، واعترف بوجود مشاكل ضخمة ومرعبة تواجه الاقتصاد والمجتمع تحتاج أيضًا إلى جهد وحماس لحلها قبل أن تتراكم وتتسبب في أزمات. فالدفاع عن الدولة المصرية ليست مهمة الرئيس والحكومة والقوات المسلحة والشرطة الذين يتحملون العبء الأكبر، ولكن مهمة جميع قوى المجتمع، الرئيس لا يملك حزبًا، ولا يريد، فهو يعلم جيدًا أنه في مهمة تأسيسية لإعادة بناء الدولة المصرية ومواجهة ما يحاك ضدها من مؤامرات وما تواجهه من أخطار، تحتاج من المجتمع وقواه الحية أن تتصدى له.. لا ينتظر تصفيقًا، ولا يتوقع استحسانًا من الجميع، يريد الرئيس أن نتوحد على هدف واحد، هو حماية الدولة المصرية.
حفظ الله الوطن