كان يمكن للنظام أن يتفادى بذرة الغضب التى زرعت فى مقر نقابة الأطباء بشارع قصر العينى، الاجتماع كان لجمعية عمومية للرد على إهانة الأطباء، والرد على إهانة كرامتهم، لكنه تحوّل، ربما دون أن يخطط مجلس النقابة لذلك، إلى حالة من التضامن الكامل من فئات اجتماعية مختلفة، وهى فئات غاضبة، لم تخف ذلك ولم تنكره، وكان طبيعيًا أن تتواجد فى مكان يعلن أصحابه الغضب فى وجه النظام.
الخطر الحقيقى على النظام ليس من موقف الأطباء الذين رفضوا إهانة أمناء قسم شرطة المطرية لزملائهم، فالموقف فى النهاية مهنى ونقابى، لكن الخطر الحقيقى أن الغاضبين من كل مكان وجدوا لهم قبلة، يولون وجوههم شطرها، يلتفون حولها، وليس بعيدًا أن تفرز وقفة الغاضبين إلى جوار الأطباء حركة أو ائتلافًا، يتم الإعلان عنه خلال الأيام المقبلة، الغضب العشوائى الذى نرصده فى الشوارع والمواصلات العامة وعلى المقاهى وفى الجلسات الخاصة، لا بد أن يتبلور فى صيغة واضحة ومحددة، وأعتقد أن هذا سيكون مزعجًا إلى درجة كبيرة.
مصدر الإزعاج فيما أعتقد ليس لأن النظام لا يشعر فقط أن هناك أزمة فى الشارع، ولكن لاعتقاده الجازم والحاسم والحاد بأنه ليس من حق أحد أن يغضب أو يستاء أو يعترض، فالرئيس - كما قال هو - يفعل هو والذين يعملون معه ما لا يقدر أحد على فعله، وعليه فليس مطلوبًا منا إلا أن نرضى. أزمة النظام الحقيقية فى ترتيب أولوياته، يتعامل مع الشعب المصرى على أنه شعب خانع، ضع يدك فى فمه يصمت على الفور، أطعمه تجده تابعًا لا يعترض ولا يناقشك، وهى صيغة قديمة وبالية تمامًا، فهناك ثلاثية لن يتنازل عنها الشعب المصرى أبدًا وهى (العيش - الحرية - الكرامة)، ولن يكون مناسبًا من نظام عبدالفتاح السيسى، أو أى نظام يأتى بعده، أن يقدم واحدة منها على الأخرى، الشعب يريدها مجتمعة، وأعتقد أن فاتورة توفيرها مجتمعة أقل بكثير من فاتورة تقديم واحدة منها وحجب الأخرى.
فالعيش الآن، والحرية الآن، والكرامة الآن، وإلا فلن يبقى أحد مستقرًا ولا آمنًا. هذا تحذير عاقل للنظام الذي لا يريد أن يسمع إلا صوته، تحذير ممن يعلن أنه مؤيد له، وداعم لما يفعله، تحذير قبل أن يجد النظام أنه بلا أنصار ولا مؤيدين فى ساحة معركة، يحدثنى ما يدور حولنا أنها قادمة لا محالة.
لا يجب أن يستهين النظام بتجمع عشرة آلاف أو خمسة آلاف فى اجتماع الجمعية العمومية للأطباء، التى عقدت الجمعة ١٢ فبراير ٢٠١٦، فالخمسة آلاف يمكن أن يتحولوا إلى خمسمائة ألف، ويمكن أن تتحول المطالبات بالحفاظ على كرامة الأطباء إلى هتافات ضد النظام نفسه، فهل ستنتظرون كثيرًا، حتى تقابلوا الخطر وجهًا لوجه، وساعتها لن يسعفكم شىء، ولن يغنى عنكم فى مواجهة الشعب شيء.
لم يطالب الأطباء بشىء معجز، أرادوا إعلاء كلمة القانون وقيمته، وهو ما يجب أن يكون النظام الأحرص عليه، فلن يضيره أن يحكم القانون على الجميع، لا تمييز لأحد على أحد، ولو فعلها النظام من أول يوم فى قضية الأطباء والأمناء لما وصلنا إلى مشهد دار الحكمة، الذى هو نذير خطر على النظام، يجب أن ينتبه له، ويبدأ الآن ليس فى تغيير سياساته فقط، ولكن فى مراجعة قناعاته.
يطالب النظام طول الوقت ممثلًا فى رأسه بتجديد الخطاب الدينى، دون أن ينتبه إلى أنه فى حاجة ملحة لتجديد خطابه السياسى، فما كان يقوله السيسي وهو زعيم انحاز لثورة ٣٠ يونيو، وتصدى لإرهاب جماعة الإخوان وحلفائهم، لا يصلح أبدًا وهو رئيس مطلوب منه أن يوفر للمواطن قوت يومه، ويحافظ له على كرامته، الزعماء لا يحاسبون على ما يقولون أو يفعلون، نلتمس لهم الأعذار، ونخلص لهم المبررات، ونحملهم على الأعناق حتى لو كانوا مهزومين، أما الرؤساء فيعزلون لو قصروا فى مهامهم الأساسية، وهذا هو المعنى الوحيد الحقيقى الذى يجب أن يعيه عبدالفتاح السيسي والذين يعملون معه.