تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
«27 مليون أمى فى مصر».. قنبلة فجرها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، حين كشف فى تقرير حديث له أن نسبة الأمية بين المصريين تتخطى حدود الـ29%.. المثير للدهشة أن هذا الرقم المخيف لم يسترع انتباه أى مسئول، بل مر مرور الكرام رغم فداحته وتهديده بإفشال أى جهود للتنمية، أو محاولة لإصلاح حال هذا البلد الأمين.
وإذا ما قورنت نسبة الأمية فى مصر بنظيرتها فى دولة الاحتلال سنجد أنها فى إسرائيل لا تتعدى 2.9% ،أى أنها لا تتجاوز 10% من مثيلتها فى مصر ،وهذا يوضح لنا مقدار التحدى الذى نحن بصدده، وتكمن خطورة الأمية فى أنها من أفدح المشكلات التى تواجه الدول النامية فى الوقت الحاضر، باعتبارها مشكلة قومية ذات أبعاد متعددة اقتصادية واجتماعية وسياسية وحضارية، فحالة الفقر التى توصف بها بعض المجتمعات لا تشير إلى نقص الثروات والأموال، وإنما إلى ضعف درجة الوعى الثقافى والحضارى لهذه المجتمعات.
يربط معظم المفكرين بين التعليم والتنمية على اعتبار أن التنمية الإنسانية الشاملة تعبير عن حالة راقية من الوجود الإنسانى، فالفقر فى الأساس هو قصور فى القدرات الإنسانية، وبالتالى فى الأداء الإنسانى، وبناء عليه يمكن القول بأن الأمية تسير جنبًا إلى جنب مع الفقر والتخلف، كما أن التفاوت بين الدول الغنية والفقيرة ليس تفاوتًا ماديًا فى حد ذاته لكنه تفاوت تعليمى، فالشعوب التى لا تملك مهارات ومعلومات أو معرفة مهنية غير مؤهلة من الأساس لرفع مستوى معيشتها، وهكذا فالقضاء على الأمية يؤدى إلى التخلص من براثن الفقر.. فالشخص المتعلم المثقف يكون أكثر إنتاجية .. لذا أصبح الدور الذى يلعبه التعليم فى التنمية من الأهمية بحيث يمكن اعتبارهما مترادفين، فالتعليم جزء من الصالح العام وعامل فى تطوير نوعية الحياة.
التعليم ركيزة التغير الاجتماعى الأساسية ووسيلته الفعالة، ولذا يجب أن يتاح التعليم لكل أبناء المجتمع، وعليه فمن الضرورة بمكان تذليل كافة العقبات التى تحول بين الطبقات الفقيرة والتعليم الذى يمثل المخرج الوحيد الممكن من دائرة الأوبئة الاجتماعية الفقر والجهل والمرض. ومن هنا يمكن القول إن الأمية تعد إحدى ظواهر التخلف الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والسياسي، وعليه فإن القضاء على أسباب التخلف يتطلب أن تتضمن برامج التنمية العمل على مكافحة الأمية.. ويكفى أن نعلم أن ارتفاع نسبة الأمية فى مصر السبب الثانى مباشرة بعد ارتفاع معدل النمو السكانى وراء تراجع ترتيب مصر فى تقرير التنمية البشرية العالمى.. ولسوء الحظ تعد مصر إحدى الدول التسع التى توجد بها أعلى معدلات الأمية فى العالم، وهذا يفسر لماذا أصبحت الأمية قضية تنموية ملحة، ويجمل خبراء التنمية البشرية الآثار السلبية المترتبة على تفشى الأمية فى انتشار البطـالة والفقـر فى المجتمع.. حيث تعـوق الأمية نمو الأفراد اجتماعيًا.. وبالتالى فهى تقضى على الحراك الاجتماعى بين أفراد المجتمع وطبقاته، إضافة إلى صعوبة استغلال موارد الثروة المتاحة بالبلاد، بسبب عدم توافر القدرات البشرية القادرة على ذلك.
وتتناسب الأمية تناسبا طرديا مع الانفجار السكانى.. فهناك علاقة وثيقة بين الأمية والأزمة السكانية وانقسام المجتمع إلى أغنياء يزدادون غنى، وإلى أميين فقراء يزدادون فقرًا وغياب الطبقة المتوسطة.. وذلك لسبب بسيط، حيث إن فقدان الأميين الثقة فى أنفسهم وقدراتهم وانعزالهم عن المجتمع، واضطرارهم إلى المضى قدمًا فى طريق الاكتئاب أو الانحراف.. ،كل هذا يجر ضحايا الأمية إلى الخطر الداهم الذى يهدد بنسف مجتمعات بأكملها، ألا هو خطر التطرف والسقوط فى بئر الإرهاب إذا ما تعرضوا لأى كلمات معسولة تغسل عقولهم زورًا وبهتانًا باسم الدين وبعض المفاهيم البالية والمغلوطة والملتبسة.
ومع تعاقب الحكومات تظل أزمة الأمية أحد أخطر التحديات التى تحول دون أى تنمية اجتماعية أو اقتصادية.. وقد آن الأوان لتفعيل مواد الدستور العصرى الجديد فيما يتعلق بالتعليم، حيث تنص المادة «19» من الدستور على أن التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمى فى التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه فى مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقًا لمعايير الجودة العالمية، والتعليم إلزامى حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة التعليمية. كذلك نصت المادة "25" من الدستور، على أن تلتزم الدولة بوضع خطة شاملة للقضاء على الأمية الهجائية والرقمية بين المواطنين فى جميع الأعمار، وتلتزم بوضع آليات تنفيذها بمشاركة مؤسسات المجتمع المدنى، وذلك وفق خطة زمنية محددة، ولا بد من وضع هذه الخطة فى إطار زمنى لا يتجاوز خمس سنوات للتخلص التام من عار الأمية بإشراف الجهاز التنفيذى للهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار، وهو ما يضع تلك الهيئة أمام تحدٍّ كبير يتطلب وجود إرادة سياسية قوية ودعم شعبى واضح بإسهام القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدنى، ويتطلب ذلك مضاعفة الإمكانات المادية والبشرية عدة مرات لتحقيق تلك الغاية.
وفى النهاية يمكن القول إن التخلص من عار الأمية يستلزم تضافر جميع الجهود وتسخير كل الإمكانيات، للقضاء على هذا الوحش الكاسر الذى يلتهم أى جهود للتنمية.. ويكفى أن نعرف أن الميزانية المخصصة لهيئة محو الأمية لا تتجاوز 170 مليون جنيه سنويًا، ويتم تخصيص 70% من تلك الميزانية الهزيلة للأجور والنسبة الباقية للتدريب والتطوير، فمكافحة الأمية هى واجب قومى، وهذا يستوجب تضافر الجهود بين كافة مؤسسات المجتمع، انطلاقًا من مسلمة أساسية تؤكد أنه لا تنمية ولا تطوير ولا تقدم ولا ديمقراطية ولا استقرار مع وجود خطر الأمية... وبالتالى فإن القضاء عليها يجب النظر إليه باعتباره جزءا لا يتجزأ من عملية التنمية نفسها، وهو أيضا إحدى ثمارها ... فهل وصلت الرسالة؟