توقفنا فى المقال السابق، عند رفض بعض المصريين لسياسات الخليفة الراشد عثمان بن عفان، بعد تعيينه لأخيه فى الرضاعة عبدالله بن أبى سرح خلفًا لعمرو بن العاص، الذى كان قد نجح فى سرقة قلوب المصريين فأحبوه طيلة ولايته، أما عبدالله فكان قاسيا وانشغل عنهم بالحروب فى إفريقيا، فكرهوا حكمه، وذهب وفد من أهل مصر، لمقابلة أمير المؤمنين عثمان يطلبون منه عزل عبدالله وإعادة عمرو إلى منصبه، فوعدهم بإرسال هذا القرار مع رسول له، وفى طريق العودة غافل المصريون هذا الرسول وقرأوا الرسالة، فوجدوها ممهورة بخاتم عثمان، وبها آية «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض»، ومعناه أن هؤلاء قد خرجوا على الحاكم ويجب قتلهم، فلما وجدوا أن هذه الرسالة على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، رجعوا إلى المدينة والتقوا كبار الصحابة، يشكون لهم أمر عثمان الذى نفى أن يكون هو كاتب هذه الرسالة، وإنما كاتبها هو مروان بن الحكم، فطلبوا منه أن يسلمهم مروان، فرفض ذلك خشية أن يفتكوا به، وهنا بدأت نيران الفتنة فى الاشتعال، وبغض النظر عن التفاصيل المؤلمة لهذا الحادث، والتى يمكن للقارئ أن يطلع عليها فى الجزء الرابع من كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير أو فى نهاية الجزء الثانى من تاريخ الطبرى، أو كتاب تاريخ الإسلام للإمام الذهبى، فإن الأمر قد انتهى بقتل الخليفة الورع عثمان بن عفان بعد محاصرة داره لأكثر من شهر بجموع غفيرة تطالبه بالتنحى أو خلعه عن منصب الخلافة، فكان رده «ما كنت أخلع سربالًا سربلنيه الله» فمنعوه الطعام والماء والخروج إلى المسجد حتى جاءت اللحظة الفارقة، حين دخل عليه محمد بن أبى بكر الصديق فى ثلاثة عشر رجلًا، فضربوه وجذبوه من لحيته وكان بينهم من يدعى بالأسود بن حمران، وقيل سودان بن رومان، وهو الذى صوب حربته فى صدره رضى الله عنه، ثم تبع ذلك بسيف أنزله عليه، فمات عثمان وساد الهرج والمرج، حيث اقتحم الناس داره ونهبوها، فما تركوا فيها شيئا إلا أخذوه، وكان رضى الله عنه يقول «والله لئن قتلتمونى لا تتحابون بعدى أبدًا»، وقد صدق فيما قال، فعند هذه اللحظة التاريخية الفارقة، انقسمت الأمة لأول مرة، ولم تجتمع حتى يومنا هذا، حيث تحولت إلى فرق وأحزاب وشيع، وزاد الأمر بعد مبايعة الصحابة لعلى كرم الله وجهه، والذى تولى الخلافة فى وقت بالغ الصعوبة، فأراد أن يستقيم له الأمر بتعيين عدد من الولاة الجدد على الشام والبصرة والكوفة واليمن، وهنا اعترض معاوية الذى كان واليًا على الشام، لتبدأ فصول فتنة جديدة أدت إلى مواجهات عسكرية هى الأولى من نوعها بين المسلمين وبعضهم البعض، وذلك فى موقعتى «الجمل وصفين»، وقد أسفر ذلك عن مقتل مئات الصحابة من بينهم عمار بن ياسر، وزادت الفتنة اشتعالًا بمقتل الخليفة الرابع على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وتصور الجميع أن نار الفتنة قد خمدت، ولكنها سرعان ما تجددت وعادت للاشتعال، حين بايع الناس الحسن، فى حين بايع البعض الآخر معاوية، والقصة طويلة ومعروفة لمن يريد المعرفة، وكلما كان الناس يظنون أن الدماء قد انحسرت فيما مضى، وأن القادم هو الاستقرار والسلام اكتشفوا أن ذلك من الأوهام المستحيلة، فالدماء ظلت تتساقط حتى تشربتها أستار الكعبة، فمن منا يتناسى عبدالله بن الزبير الذى علق على الكعبة، بعدما رموها بالمنجنيق، ومن قبله دفع الحسين حياته مع العشرات من آل البيت الكرام، وتحولت الخلافة الإسلامية إلى ملكية بتوريث معاوية الخلافة لابنه يزيد، وأصبحت دمشق هى عاصمة الخلافة، بعدما كانت المدينة فيما مضى، وكانت سياسات القمع والتنكيل والقتل هى الضمان الوحيد لاستقرار الوضع، ورغم ذلك ظلت الخلافة الإسلامية تعانى الانقسامات والحروب الأهلية سواء فى الدولة الأموية أو العباسية.. وللحديث بقية.
آراء حرة
سقوط الخلافة "3"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق