ويبدأ على حرب بحثه الذى ضمنه كتاب الناقد عن العنف الأصولي. قائلًا وبشكل مباشر «لا يتجرد الحكم فى الإسلام عن صفته المدنية، وطابعه الدنيوى وبعده العلماني. والشاهد على ذلك أن السلطة فى المجتمع الإسلامى لم تتشكل إلا بفعل صراع العصبيات ولعبة القوي. وأن المنطق الذى تحكم بنشوء الدول ورسم السياسات قد نبع من إرادة القوة، وكانت توجهه دومًا استراتيجية للسيطرة والإخضاع.
صحيح أن النبوة هى مبتدى الإسلام ومبدأه، وأن الحكم استند دومًا إلى شرع دينى على الأقل من حيث المبدأ وعلى الصعيد النظري، ولكن النبى كان يعبئ القوى، وينظم الصفوف، ويضع الخطط، ويقود الجيوش، ويشن الحروب، ويفتح البلدان.
وكان له فى النهاية مشروعه الدنيوي» (ص٩٥). ويمضى حرب قائلًا «وأما الخلافة فقد كانت منذ نشأتها مؤسسة دنيوية مدنية، ولم تحسم مرة إلا وكان الدين غائبًا عن مسرح الأحداث ليحل محله الإنسان بأهوائه ومنطقه ومصالحه، وتكفى الإشارة إلى أن ثلاثة من خلفاء الرسول ماتوا قتلًا، وأن بعض الصحابة المبشرين بالجنة قد تنازعوا فيما بينهم واقتتلوا أيما اقتتال.
وأنه لم تمض عقود على وفاة الرسول «صلى الله عليه وسلم» حتى قتل حفيد أبى سفيان الذي انهزم أمام قوة الإسلام الصاعدة حفيد الرسول ثأرًا وانتقامًا فقد تحولت الخلافة إلى مُلك عضوض» (ص٩٦). ويمضى على حرب «وقد أدرك المسلمون من قبل هذه الحقيقة نعنى دنيوية الحكم ومدنيته، وعلى هذا النحو مارسوا السلطة ونظروا إليها.
ولذلك لا نجد دولة من الدول التى تعاقبت على الحكم فى الإسلام وبالاستناد إلى شريعته قد سميت «دولة إسلامية» فى المجتمعات الإسلامية بل نسبت تلك الدول إلى أصحابها والقائمين بها أى إلى العنصر والعرق أو القبيلة والأسرة أو حتى الفرد، فقيل الخلافة الأموية - والعباسية - السلجوقية - الحمدانية، وفى هذا دليل على أن السلطة ليست إلهية لا فى طريقة نشوئها ولا فى ممارساتها، إنه دليل على أن التمييز بين السياسى والديني، أو بين الدينى والدنيوي.
وبعد عهد الخلفاء الراشدين حدث فصل بين العلماء (الفقهاء) والخلفاء، أى بين رجال الدين والسياسة، وفى هذا الفصل الذى يشكل مظهرًا علمانيًا، كانت الدولة أولى من الشريعة، والشريعة تابعة للدولة وآلة لها.
ومن الأدلة على ذلك اختلاف المسلمين وتفرقهم إلى فرق وطوائف، وهو اختلاف لا يفهم إلا بوصفه نتاجًا للعقل والتاريخ أى بكونه نشأ عن اختلاف العقول والمفاهيم والظروف وتفرق الأهواء وتضارب المصالح» ويمضى على حرب ليضعنا على حد السكين قائلًا «إن لهذا الموقف مأزقه إذ بإمكان كل فريق أن يتعامل مع كل فريق بأن ينفى جميع الآخرين، ولكل حججه وبراهينه، والمناظرة لا تقف عند حد ولا نهاية لها.
وقد استمر الجدل بين المذاهب قرونًا، ولم يصل إلى بت فى المسائل، إذ العقل يفتق بقدر ما يرتق ويكسر بقدر ما يصلح» (ص٩٧)، والمشكلة لا تقوم على معرفة من هو الأحق معتقدًا والأصح مذهبًا، فالمذاهب تبدو لناظرها اليوم إذا نظر إليها بعقل متفتح طرقًا مختلفة إلى الحقيقة، فهى اجتهادات وتفاسير وتأويلات مختلفة ولكل تأويل منطقه وظروفه.. «إنها ثمار عقول.. وهذه هى العلمانية».
ثم يقول «نعم إن الله واحد، ولكن الملل والعقائد كثيرة والتفاسير متباينة والأنساق مختلفة والمقالات الكلامية متعارضة، ولا سبيل لفهم ذلك إلا من إنسانية الإنسان ونزعته التشبيهية وعبثه الدنيوى وطوره المدنى ووضعه التاريخي.
ولا يجوز النظر الآن إلى الاختلافات بين الفرق من منظار علمى محض أى على أساس التمييز بين الحق والباطل أو الصدق والكذب، بل الأحرى أن ينظر إليها بوصفها وجوهًا مختلفة لهوية واحدة مركبة وغنية وكل جماعة هى ثمرة من ثمار المدنية، ونتاج تاريخها الخاص، وكل مذهب أو فرقة هو ابن معارفه وعلومه، وكل مجدد له فى أحكامه وشرائعه طابعه الإنسانى وبعده الدنيوي.. العلماني. وعليه لا يمكن لأحد أن يحتكر الشريعة الأولى لنفسه، ولا يمكن لأحد أن يقبض على مفاتيح الحقيقة» (ص٩٨).
ثم يتوج على حرب أطروحته قائلًا: «إن الشريعة وإن اعتبرت إلهية فى الأصل والمبتدأ فإنها تصبح عند التفسير والتأويل والتطبيق إنسانية دنيوية ذلك أن المجتهد أيّا كان مبلغ علمه وفهمه يصدر فكره عن ظن فيما يراه ويستنبطه، ولا يبلغ اليقين إذ لا أحد يبرأ من الخطأ والوهم والنسيان».
ويقول: «وحدها هذه النظرة النقدية المنفتحة تجعلنا نتقبل الاختلاف كواقعة أصلية لا مجال لإنكارها، كما أن إدانتها لا تمكننا من فهم حقيقة الاختلاف واستيعابه بدلًا من نفيه أو طمسه أو سحقه»، ومن هنا يصل بنا على حرب إلى ضرورة النظر فى العقائد والنصوص من خلال تاريخيتها، وإلى الدول والمؤسسات والأحكام من خلال مدنيتها وعلمانيتها.