السبت 11 يناير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

في المتحف المصري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شاهدت هذا الأسبوع عددًا من الأفلام الرائعة، من بينها أفلام مرشحة للأوسكار، واشتريت عددًا من الكتب القيمة من معرض الكتاب، كنت أتمنى أن أكتب عن فيلم أو كتاب منها، ولكن حظى العاثر أوقعنى في فيديو من دقيقتين لمصريين يقطعون أحجار الأهرامات ويبيعونها لمن يرغب من السياح والمصريين، فقضيت ليلة سوداء أفكر فيها في كيفية الهرب من هذا البلد أو التخلص من حياتى.
تذكرت ممرورًا بالحنين والفقدان، ذات صباح من عام ١٩٨٣ ذهبت فيه إلى المتحف المصرى، بمفردى، في فورة حماس «وطنية» عقب قراءة كتاب «فجر الضمير» لهنرى بريستد، وكتاب آخر عن الحياة في عصر الرعامسة لا أذكر عنوانه الآن.
في هذا اليوم بقيت من الصباح وحتى إغلاق المتحف متنقلا بين المعروضات، مبهورًا ومأخوذًا بالعظمة الغامضة التي تكلل الوجوه والتماثيل والأدوات، وبشكل خاص العيون المصرية الشهيرة وقناع توت عنخ آمون الذهبى. في تلك الحالة المزاجية لم يكن ينقصنى سوى مشاهدة بعض المومياوات، ولكن لما سألت عرفت أنها محجوبة في مكان مغلق لأن السيد رئيس الجمهورية «المؤمن» الذي تم اغتياله على يد متشددين دينيين أصدر قبل موته قرارًا بمنع عرض المومياوات الفرعونية حفاظًا على حرمة وحرمانية الموتى!
لم أكن قد زرت الآثار المصرية القديمة قبل هذا اليوم باستثناء زيارتين طفوليتين إلى الأهرامات، واحدة بصحبة الأسرة خلال أحد الأعياد، والثانية ضمن رحلة نظمتها المدرسة الابتدائية.
في هذا العام، ١٩٨٣، ذهبت إلى الأقصر وأسوان ضمن رحلة جامعية خلال إجازة نصف العام، عمقت من حبى لتاريخ مصر القديم، المصحوب بحزن أعمق من المعاملة السيئة والدنيئة التي تعرضت لها هذه الآثار على يد الغزاة وأبناء البلد.
لم أذهب إلى المتحف المصرى بعد هذه الزيارة سوى مرة واحدة، عام ١٩٩٦، لم أدخل فيها المتحف، وبقيت خارجه، لأننى كنت مشغولا بتغطية وتصوير واقعة حرق أتوبيس سياحى على يد الإرهابى، المغنى الفاشل سابقًا، صابر فرحات.
أحفاد الفراعنة، أو بالأحرى شراذمة الشعوب التي سكنت مصر بعد انهيار الحضارة المصرية القديمة، لم يكتفوا بنهب آثار المصريين القدماء والعيش على خيرها، ولكنهم، تحت نوبات الحقد المجنون التي تتمكن منهم بين الحين والآخر، يعملون على تدمير هذه الآثار وهذا التاريخ بدون سبب سوى شفاء غليلهم وغلهم.
من بين أكثر الصور الفوتوغرافية إيلامًا ولا تفارق ذهنى أبدًا، صورة لصبى مصرى، يعمل كبائع مومياوات فرعونية، يجلس على أحد الأرصفة شبه نائم، وخلفه جثتان فرعونيتان معروضتان للبيع.
الصورة تعود إلى الربع الأول من القرن العشرين، أو الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ما يعنى أن تجارة المومياوات والآثار الفرعونية عموما استمرت منذ نهاية عصر الفراعنة وحتى العصر الحديث، حتى بعد مجيء الحملة الفرنسية وبداية عصر التنوير وإدراك عظمة الحضارة الفرعونية وتأسيس المتحف المصرى وتجريم تجارة الآثار.
أعرف، كما تعرفون، أن المصرى «يبيع أباه» وأجداده من أجل بضعة جنيهات، وأن أكبر إنجاز حققه المصريون خلال الأعوام الأخيرة لم يكن حفر قناة السويس، ولكن حفر مئات الآلاف من الحفر تحت بيوتهم تنقيبًا عن الآثار وسائل الزئبق الأحمر الذي يقال إنه يعيد الشباب وإنه موجود في أجساد المومياوات.
أعلم، كما تعلمون، أن تجارة الآثار ليست حكرًا على الجهلة والمعتوهين حضاريًا، وأن بعضًا من «كبراء» و«أعيان» و«حكام» هذه الأمة أصبحوا مليونيرات ومليارديرات من بيع الآثار، لكن من سمع ليس كمن رأى، كما يقولون، والفيديو الذي بثه أحد المواقع الإخبارية لمن يبيعون أحجار الأهرامات، ليس فقط مؤلمًا، ولكنه مخزٍ، ويصيب أي شخص مصرى أو أجنبى، لديه الحد الأدنى من الإحساس والحس السليم، بالقرف والاشمئزاز، ويكفى أن ترى نظرة السائحين اليابانيين اللذين يظهران في لقطة من الفيديو وهما يشهدان عملية بيع حجارة الهرم لتنغص عليك يومك حزنًا  وخجلا من، البلد وأهله.
هل صحيح أننا أحفاد الفراعنة، أم أننا أحفاد الغزاة الذين يضمرون الشر لكل ما هو مصرى؟
هل صحيح أن الدماء المصرية تجرى في عروقنا، ولو بنسبة قليلة، أم أنها دماء الحاقدين؟
قل عن الفقر ما تشاء، وبرر للجهلاء جهلهم، ولكن الموضوع يتجاوز هذا التفسير الساذج، ويحتاج إلى أخصائيين في علم نفس الشعوب.
يقولون إن نابليون هو الذي كسر أنف أبى الهول أثناء قصف القاهرة، وهناك محام يزعم الوطنية قام برفع دعوى بأثر رجعى ضد نابليون بتهمة قصف التمثال، ولكن المقريزى الذي عاش في القرن الرابع عشر يخبرنا عن «الإرهابى» صائم الدهر، الذي هاجم تمثال أبى الهول تحت تأثير نوبة من «التدين المفرط».
يجهلون، أو يتجاهلون، أن محمد على باشا أصدر فرمانًا بهدم الأهرامات لبناء القناطر الخيرية، قبل أن يغير رأيه عندما وجد أن الحصول على الصخور من هضبة المقطم أوفر وأسرع.
يجهلون، أو يتجاهلون، أن حكام مصر ورؤساءها المتعاقبين تعاملوا مع الآثار الفرعونية وكأنها ملك شخصى لهم، وأنهم راحوا يوزعون الهدايا «الدبلوماسية» على زملائهم من حكام الدول، من مسلة واشنطن وباريس حتى حُلى ومجوهرات زوجات هؤلاء الحكام.
أتذكر أننى بعد قراءة «فجر الضمير» و«مصر في عهد الرعامسة» قرأت كتاب «سرقة ملك مصر» للصحفى والباحث محسن محمد، الذي يتناول بعضًا من عمليات النهب التي لاحقت آثار الفراعنة، وذكر، من بين ما ذكره، أن عشرات الآلاف من المومياوات كانت تباع للمزارعين في مصر وخارجها ليستخدموها كسماد عضوى لتخصيب هذه الأراضى.. ويومها قضيت الليل مؤرقًا وساخطًا كما حدث لى عندما شاهدت فيديو بيع الهرم!