أعترف وأقر وأبصم بالعشرة أننى لا أحب الأطباء، بتعبير أدق مش باحب أروح للأطباء، يعنى لما حد يشوفنى قاعد مستنى فى عيادة يعرف تماما إنى جايب آخرى، وإنى وقعت من طولى ورضيت باللى مش بارضى بيه بمزاجى، يعنى من الآخر سمعت الكلام اللى بيقول «اللى يجيلك بالغصب.. خده بالرضا».
وأقر وأعترف وأبصم بالعشرين، مش العشرة بس، إنى مابحبش بتوع الاقتصاد، وباعافر علشان أفهم سر صعود وهبوط الدولار أو سهم البورصة، مع إنى ماليش لا فى البورصة ولا فى الدولار.
وأقر وأعترف وأبصم كذلك بكل أصابع الذين أعرفهم أننى لم أكن أحب الجغرافيا، وترهقنى أسماء المحطات والمدن، وإشارات المرور، نعم أنا ذلك الشخص الذى يؤمن بالطب البديل وسر الأعشاب، ويخاف من الحقن والأقراص، نعم أنا ذلك الشخص الذى لا يستطيع عد ألف جنيه على بعضيها، ونعم أنا ذلك الطفل الذى كان يكره «شف الخرايط» فى حصص الجغرافيا.
لكننى قطعا أحب جمال حمدان وجلال أمين وأحمد عكاشة، وكثيرا ما ألجأ إليهم كلما ضاقت الأحوال، وغامت السكك، وحسيت إن عيونى «مدغمشة»، وإن الطريق باهت ومايع ومش باين له عينين.
وحده جمال حمدان وكتابه العبقرى «شخصية مصر» كان يجبرنى على استعادة الأمل، ويشعرنى بعد صفحة واحدة من موسوعته أننا كبار، وأن بلدى عظيمة وتستحق أن نفعل كل ما نستطيع من أجل أن نعيش فيها، ورغم الفارق الكبير بين شخصية مصر وماذا حدث للمصريين وتحليلات د. عكاشة، إلا أننى من الذين يرتاحون ويفرحون كلما استمعوا إليهم، أو قرأوا لهم، فلماذا أجدنى الآن مضطرا لركوب الصعب والذهاب إلى عيادة طبيب؟!
هل تعقدت الأمور تماما لدرجة أن التحليل الاقتصادى لجلال أمين والجغرافى لحمدان والنفسى لعكاشة لم يعد كافيا، وإلا بالله عليكم كيف وصل بنا الحال إلى أن يبيع أفراد منا قطعا من أحجار الهرم؟!
يبدو أننى مريض فعلا، لأننى حينما قلت ذلك لصديقى المقاول على المقهى فاجأنى: «يا رجل إذا كانت الناس باعت كلاويها، مش هتبيع أم الهرم»، يبدو فعلا أننى لم أعد أعرف موجة الناس، ولذلك ذهبت إلى تحليل جديد من نوعه يختلف تماما عما كتبه جمال حمدان وعكاشة وجلال أمين، تحليل لجأ إليه صلاح عيسى وبعض مثقفى اليسار المصرى فى السبعينيات -رغم وضوح الأيام وقتها باستثناء أيام الشبورة قبل حرب أكتوبر- عندما اعتبروا أحمد عدوية تعبيرا عن صور طبقة جديدة وتفسيرا موسيقيا لما أحدثه السادات فى «بنية المجتمع»، والبعض منهم شاف -لعلكم تذكرون- أن «زحمة يا دنيا زحمة» تعبير عن حالة الانفجار السكانى، وأن «حبة فوق وحبة تحت.. ويا ناس ياللى فوق بصوا على اللى تحت» تعبير عن نداء أخير أطلقته جماعات المهمشين للصاعدين إلى قمة السلم الاجتماعى وقتها، وأن أغنيته الأشهر «السح الدح إمبو» فهناك تفسير غرائبى مدهش جعلها «مصر المسروقة- الواد» اللى الشعب بيطالب برجوعه إليه.. لم يخل الأمر من جدية فى ذلك التناول جعلتنى أفسر ما جرى بعد ذلك من باب الأغنيات الشعبية، «يعنى ما تستهونش بشعب fm».
ومن باب استمراء الحالة، رأيت أن «توهان.. توهان» التي غناها حسن الأسمر -خليفة عدوية فى زمن مبارك- تعبير عن تلك الحالة من التوهة التى أدخلنا فيها الرجل لسنوات طويلة، وبنفس المنطق يمكننا أن نفهم سر نجاح أغنية بوسى «لفى بينا يا دنيا، خدينا يمين شوية، خدينا شمال شوية»، ونعتبر أنها المعادل الموضوعى لتلك الفترة التى روحنا فيها يمينا ويسارا عقب سقوط نظام مبارك، فبعضنا وحتى هذه اللحظة يتحسر على أيامه، ويعتبر تلك البلادة وذلك النهب المنظم وكل كومة الأمراض القاتلة التى سرحت فى أجسادنا استقرارا، فيما يرى بعض منا -وكانوا بالملايين- أن أصحاب الذقون كانوا على حق وأننا ابتعدنا عن طريق الله فيما خلفناهم وظلمناهم سنين، ثم يمكنك أن تلاحظ سر انتشار موسيقى المهرجانات ونجومها، «أوكا وأورتيجا» بعد ذلك، وكأنه نفس الضجيج الذى أحدثته موجات من الائتلافات والسياسيين عبر برامج التوك شو التى دمرت أجهزتنا العصبية فيما تلا عصر الإخوان الذى لم يدم -ولله الحمد- طويلا، ومن «أوكا وأورتيجا»، نصل إلى مرحلة «هتعورنى، هعورك وأغيرّ منظرك»، كتعبير حقيقى عن سمات البلطجة التى سادت المشهد المصرى فى تلك الفترة، وها نحن نصل للتطور الطبيعى لغنائنا الشعبى -أقول شعبيا تجاوزا- بالزعيم الذى يسيطر على الشارع الموسيقى الآن، وهو مطرب مجهول تماما، خرج فجأة من إحدى المواسير الضالة فى أحد أفلام جيل السبكى وأعوانه، ليعبر عن حالنا الغامض الآن، وينذرنا، ويفسر لنا كيف وصلنا إلى مرحلة بيع الهرم قطعة قطعة، وحجر حجر، اسمعوا جيدا لمنشورات أحمد شيبه التى تتحدث عن الزهر الذى يتمنى أن يلعب معه، ويصل به إلى سكة الأموال، لحظتها فقط ستتغير الأحوال، «آه لو لعبت يا زهر، واتغيرت الأحوال، وركبت أول موجة، فى سكة الأموال»، ساعتها ستعرف أننا مقبلون على مرحلة بيع، تختلف تماما عن مرحلة «بيع يا لطفى» التى أطلقها جميل راتب، دون أن يقصد مع بدايات مشروع الخصخصة.
يمكننى الآن أن أستريح وأمزق موعد ذهابى للطبيب، وأعدل موجتى لأقرب فرح شعبى سيغنى فيه أحمد شيبه، ويمكنكم تحويل الموجة إلى «شعبى fm»، وانتظار حجر كبير يسقط على رؤوسكم من قمة الهرم!