الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

حوارات

جابر عصفور في حواره لـ"البوابة": حالة الحرية بمصر «مرتبكة».. والمسئول عن هذا الرئيس والأمن والأزهر والمجتمع.. و «السيسى» ليس محظوظًا مثل «عبدالناصر»

قال إنه لم يخذل المثقفين.. لكنه يعتب عليه

 جابر عصفور الكاتب
جابر عصفور الكاتب والمثقف الكبير وزير الثقافة السابق
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حالة الحرية بمصر «مرتبكة».. والمسئول عن هذا الرئيس والأمن والأزهر والمجتمع
«السيسى» ليس محظوظًا مثل «عبدالناصر»
رجال الدين سبب أزمة تجديد الخطاب الدينى لوجود عقول متحجرة ومتعصبة بينهم
على الحكومة تشكيل «المجموعة التثقيفية» مثل «المجموعة الاقتصادية»
 النخب الثقافية تعيش فى أزمة وتتصارع على «مكاسب شخصية رخيصة» على حساب «هموم الوطن»

يظل جابر عصفور الكاتب والمثقف الكبير وزير الثقافة السابق كما هو، لا يتغير أبدا، يغنى من أجل الحرية، ويحارب من أجل التجديد، وينتقد من أن أجل أن يكون لدينا وطن نفخر به، لا نبكى عليه، معاركه موثقة، لا يمكن لأحد أن يزايد عليه، أو يخصم من رصيد تجربته العريضة فى قلوب وعقول تلامذته ومريديه وأصدقائه ومتابعيه من المثقفين.
من يعملون ويفكرون مثل جابر عصفور لا بد أن يتحدثوا، وعلينا أن نستمع إليهم، يعيش فى بيته بين كتبه وأبحاثه وأفكاره، يطل على الوطن من خلف نظارة كاشفة، يعرف ما يحدث على الأرض، ويحلم بالمستقبل، جلسنا معه، لنقرأ كيف الآتي، وكان لديه الكثير.
■ قلنا له دعنا نبدأ من عنوان آخر كتبك «الثقافة والحرية».. وأنت مهتم بالشأنين معا، كيف ترى خريطة الحرية فى مصر الآن؟
- قال: أعتقد أن حالة الحرية مثل أشياء كثيرة فى مصر مرتبكة، فنحن لم نصل إلى الدرجة المطلوبة منها، رغم أننا عبرنا ثورتين هما «٢٥ يناير» و«٣٠ يونيو»، وكان ينبغى أن ندخل فى إطار الحرية، خصوصا أننا أكملنا خارطة الطريق بتشكيل مجلس النواب، لكن يبدو أن هناك عوامل كثيرة تحول دون أن تكون لدينا حرية بمعناها الكامل، والمعنى الذى أقصده هو المعنى الفكرى، فعلى سبيل المثال لا نزال نفاجأ بمجموعة من دعاوى الحسبة التى تنطلق ضد المثقفين، تتهمهم اتهامات غريبة بما يسمى «ازدراء الأديان»، وتكون النتيجة كما تابعنا محاكمة هؤلاء المثقفين وسجنهم، والغريب الذى لم يلتفت إليه أحد أن تهمة ازدراء الأديان فى الأساس تتعارض مع الدستور، الذى ينص على أنه لا مساس بالحرية، ولا توجد عقوبات سالبة لأى مثقف، وهى أمور فى النهاية تسىء إلى مناخ الحرية الذى ننشده.
لا يزال جابر يمسك بخيط حديثه عن الحرية، يقول: الغريب أنه فى الوقت الذى توجه فيه تهمة ازدراء الأديان للمثقفين الذين هم فى الأصل مع الدولة المدنية، نسمع ممن ينتسبون إلى السلفيين أنهم يزدرون الأديان فعلا، ويزدرون معنى المواطنة فعلا، والتصريحات التى تدل على ذلك كثيرة جدا، وآخرها تصريح الشيخ ياسر برهامى بـ«أن من لا يقر بكفر المسيحيين وأنهم كفار فهو كافر بلا شك»، والسؤال هنا الذى لا بد أن يجيب عنه المجتمع هو: أيهما أولى بتهمة الازدراء؟ رغم أننى مع شطب هذه التهمة من الأساس.
لا ينتظر جابر عصفور إجابة، يجيب هو، يقول: «المثقفون أنصار الدولة المدنية الذين وقفوا مع السيسى فى (٣٠ يونيو)، لكى يقضوا على الإخوان المسلمين، حالمين بدولة مدنية ديمقراطية، أم هؤلاء السلفيون الذين يريدون أن نكون على المذهب الوهابى الذى لا يزالون متمسكين به».. الإجابة واضحة إذن.
■ سألنا جابر وبوضوح: نرى فى كلامك بعض اللوم والعتاب.. فى جملة واحدة هل ترى أن الرئيس السيسى خذل المثقفين؟
- لا أظن أن الرئيس السيسى خذل المثقفين، إنما هو فى وضع صعب جدا، ويعرف أن مصر فى أصعب حالاتها وهى محاطة بالمخاطر من كل مكان، وهو يحاول أن يخرج من هذا المأزق، وربما من أجل هذا يقوم بتحالفات حتى يضمن لمصر خروجا آمنا من هذا الوضع الصعب، هذه التحالفات توقعه فى مجموعة من التناقضات.
يفصل عصفور ما أجمله فى قوله: الرئيس السيسى مثلا يدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة قائمة على المواطنة، فيضطر إلى أن يتحالف مع السعودية، والسعودية هى راعية الوهابية فى العالم، والوهابية فى نهاية الأمر هى مذهب حنبلى متطرف، ويرجع فى شكله النهائى إلى ابن تيمية صاحب الفكر المتطرف القائم على التكفير. السيسى كما أعرفه عن قرب وبطبعه يريد أن يقدم حرية وديمقراطية بشكل كامل، لكن عنده أزمة اقتصادية طاحنة لا تستطيع أن تساعده على ذلك، والأهم من هذا لديه نسبة ٤٠٪ من الأمية عند الشعب، وهى أمية معلومات ووعى أكثر من كونها أمية قراءة وكتابة، فماذا يفعل فيها.
كل هذه الأشياء -كما يقول جابر- تجعلنا نتعاطف معه فيها، لكن ينبغى أن ننبهه باستمرار إلى أن المستقبل فى ثقافة مدنية ديمقراطية حديثة تقوم على المواطنة.
■ قلنا له إن السيسى فعليا كان أول من دعا إلى تجديد الخطاب الدينى، بل طرح ما اعتبره البعض متجاوزا لثوابت كثيرة جدا، وفجأة اتهمه البعض بأنه تخلى عمن دعوا إلى تجديد الخطاب واستسلم لمشايخ الأزهر والسلفيين.. هل توافق على هذا الرأى؟
- قد يكون هذا الرأى غير دقيق إلى درجة كبيرة، والموقف كله يمكننى أن ألخصه فى أننى متعاطف مع السيسى جدا، لكن من الصعب أن نتجاهل تخليه عمن قاموا بمحاولات لتجديد الخطاب الدينى.
■ لكن هل ترى أن المثقفين الذين تصدوا لمسألة تجديد الخطاب الدينى حالفهم التوفيق، البعض يرى أن النخبة التى تحيط بالسيسى سياسيا وثقافيا ليست على المستوى المطلوب، هل تتوافق مع هذا الرأى؟
- الرئيس عبدالفتاح السيسى فعليا ليس محظوظا كما كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر محظوظا، فعبد الناصر خدمه القدر بوجود رجال كبار حوله، أما الرئيس السيسى فليس لديه رجال كبار حوله، مصر فى ١٩٥٢ كان بها بقايا الجيل الليبرالى القديم، لم يكن هذا الجيل قد اختفى بعد، فكانوا رجال دولة على أرقى مستوى، ونحن الآن للأسف عندنا نوع من التجريف فى النخب السياسية، ولا يوجد لدينا النخب السياسية القادرة، ونرجو فى المستقبل من خلال حياة ديمقراطية سليمة أن تتشكل نخب سياسية جديدة، هذا عن النخب السياسية، أما النخب الثقافية فهى أيضا تعيش فى أزمة، ويمكن أن ترصد صراعات كثيرة بينهم، وللأسف الشديد هى صراعات على مكاسب شخصية ورخيصة، وهم مشغولون فى هذا المعارك أكثر من انشغالهم بهموم وقضايا الوطن الحقيقية.
■ عدنا به مرة أخرى إلى حالة الحرية التى قال إنها مرتبكة، قلنا له: لو حددنا فى نقاط الجهات المسئولة عن ارتباك حالة الحرية فى مصر، ماذا تقول عنها؟
- بلا شك الأمن، فحتى الآن هناك أناس نسمع أنهم ذهبوا إلى السجن ولا نعرف لماذا، هناك حتى الآن مجموعة كبيرة من الشباب موجودة فى السجون بتهمة الاعتراض على قانون التظاهر، رغم أن قانون التظاهر نفسه معيب، وينبغى أن يراجع مرة أخرى من مجلس النواب الجديد.
■ عندما كنت تتولى وزارة الثقافة هل كانت هناك سيطرة للأمن على الوزارة رغم أنك توليت شئون الثقافة بعد ٣٠ يونيو؟
- نعم بلا شك كان للأمن دور، وتمثلت تلك السيطرة فى أن بعض الجمعيات الشابة المحبة للثقافة منها مثلا جمعية اسمها «الفن ميدان»، وكانت هذه الجمعية من الشباب الواعد جدا المملوئين بالحماسة الوطنية، والذين يريدون أن يثقفوا الناس وكانوا دائما يقومون باحتفالية فى أول كل شهر فى ميدان عابدين، هؤلاء كان الأمن باستمرار يحاول أن يوقف هذه احتفاليتهم ولقاءاتهم الثقافية، وأتذكر أكثر من مرة أننى تحدثت مع وزير الداخلية السابق ورجوته أن يسمح لهم بالوجود والنشاط، ولكن فى نهاية الأمر بعد أن تركت الوزارة أبلغونى أن تلك الاحتفاليات قد أوقفت تماما.
■ والجهة الثانية نعتقد أنها الأزهر أليس كذلك.. لديك رصد مبكر بأن المؤسسة الدينية سبب من أسباب ارتباك مشهد الحريات فى مصر، نريد منك تفصيلا لذلك؟
- المؤسسة الدينية هى سبب أزمة التجديد، بل هى سبب عدم وجود تجديد دينى فى مصر، فليس من المعقول أو المنطقى أن تكون جزءا من المشكلة، وأطالبك بحلها بمفردك، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أنا أشفق بالفعل على الأزهر، فهو الآن يمر بحالة صعبة، لقد كان على امتداد تاريخه زاخرا بالمجددين العظام ابتداء من رفاعة الطهطاوى وحسن العطار أستاذه، وانتهاءً بالدكتور محمود زقزوق، وهؤلاء للأسف الشديد ليسوا أتباعا أو خلفاء، والأغلبية للأسف فى الأزهر للعقول المتحجرة والمتعصبة غير المرنة.
■ خضت معارك كثيرة مع الأزهر ورجاله، هل تواصلت فى أى من مراحل الشد والجذب مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب؟
- أنا أعرف شيخ الأزهر من زمان وأعتبره ولا أزال صديقا، لكن للأسف نحن اختلفنا، ويبدو أن الخلاف ليس من الشيخ الطيب، لكن من الظروف التى وجد فيها الأزهر نفسه، نحن جلسنا فترات طويلة من أيام السادات من سنة ٧٢ عندما تحالف السادات مع التلمسانى والإخوان المسلمين، وظهر بعدها لدينا نوع من المد الدينى، وأصبحت هناك عمليات تديين متتالية فى المجتمع، عمليات التديين هذه أثرت على الأزهر، ونقلته من أزهر سمح إلى أزهر متعصب، يدخل فى مزايدات مع الجماعات الإسلامية، ليبدو أنه أكثر منهم حرصا على الدين، رغم أنه ليس فى حاجة على الإطلاق إلى هذا، وقد تم هذا دون أن ينتبه رجال الأزهر، وهو ما أدى بهم تدريجيا إلى أن تغزوهم السلفية، ثم إلى سيطرة الإخوان المسلمين عليهم.
■ طلبنا منه أن يعطينا مثلا على ذلك، فالكلام لا يجب أن يمر على عواهنه؟
- قال: على سبيل المثال كان هناك قبل عام ٧٠ مشايخ للأزهر بناتهن سافرات، بعد الـ٧٠ بدأ ما يسمى بـ«الصحوة الإسلامية» وبدأت فكرة الحجاب، ووجدنا أن بنات مشايخ الأزهر تحجبن، وهنا أتساءل هل مشايخ الأزهر هؤلاء الذين لم تكن بناتهن فقط بل وزوجاتهن محجبات هل كانوا كفارا مثلا؟ لقد جرفت عمليات التديين المستمرة الجماهير المصرية فى طريقها، وكان طبيعيا أن يتأثر بها الأزهر، هذا غير الغزو الفكرى الذى تعرض له من السلفيين، وبدعم سعودى واضح، فلا يمكن أن ننسى أن المعونات السعودية لعبت دورا كبيرا جدا فى هذا.
■ على سيرة الخطاب الدينى.. أنت ترفض أن يكون الأزهر وحده من يقوم بمهمة تجديده.. هل لديك مقترحات محددة، نقاط محددة يمكن أن نعتبرها استرشادية فى الطريق إلى تجديد الخطاب؟
- هناك شروط بالطبع لتجديد الخطاب الدينى، منها العقلانية ثم متابعة العصر الحديث دون تردد، ثم فتح باب الاجتهاد على مصرعيه مرة أخرى، فعلى سبيل المثال نأخذ مسألة الحجاب، هذه المسألة ملتبسة جدا، ليس عندنا نص قرآنى صريح فيها، وإنما عندنا حديث وحيد هو حديث آحاد، بعض الناس اجتهدوا قبل ذلك وقالوا من حق المرأة السفور، وأن القضية قضية قلب، وحتى الشيخ رفاعة الطهطاوى سنة ١٨٣٤ فى كتابه «تلخيص الإبريز» عندما ذهب إلى باريس، ورأى المرأة الفرنسية سافرة بدأ يشغل نفسه بهذه القضية، وفى النهاية كتب أن الحجاب ليس سنة ولا فرضا، وإنما جاءت اللخبطة مثلما يقول من الخلط بين الزى والقلب، وأن التربية الجيدة هى أحسن شىء.
■ سألناه إلى جانب الأزهر كيف ترى ضغط ورقابة المجتمع بتكويناته التى هى انعكاس للتربية والتقاليد والمعتقد، هل المجتمع هو الآخر سبب من أسباب مشهد الحرية المرتبك، هل ما زال عمال هيئة الكتاب يتحكمون فيما ينشر وما لا ينشر؟
- كان هذا يحدث فى أواخر أيام عهد الرئيس الأسبق مبارك، وكان فيما أعتقد نتيجة لضغط العناصر المتدينة أو المبالغة فى التديين، لكن هذا لم يعد موجودا الآن، ولم أعد أسمع على الأقل بحكم عملى فى وزارة الثقافة عنه، وتفسيرى لهذا أن المواطنين بدأوا فى العودة إلى أفكارهم الإسلامية المعتادة، وهى أفكار وسطية.
■ الأزمة ليست فى المؤسسات الأخرى فقط، لدينا أزمة فى المؤسسات الثقافية، ما الدور الذى يجب أن تقوم به الثقافة ليس بالمعنى الفكرى ولكن بالمعنى المؤسسى؟
- لقد دخلت وزارة الثقافة ولدى مهمة محددة، أنا اقترحت على الرئيس عندما كان فى فترة الانتخابات الرئاسية، وكان عندى رأى ولا أزال مقتنعا به أن وزارة الثقافة ليست هى المسئولة الوحيدة عن الثقافة فى مصر، الثقافة فى مصر بالمعنى الواسع يعنى الوعى، والوعى ليس مهمة وزارة الثقافة فقط، وإنما هو مهمة عدة وزارات تصل إلى ٦ تقريبا، ولا بد أن تتفاعل هذه الوزارات مع بعضها وتشكل مجموعة تسمى المجموعة التثقيفية مثل المجموعة الاقتصادية بالضبط، تكون تحت رئاسة رئيس الوزراء، وتكون مهمتها وضع خطط للثقافة موزعة على هذه الوزارات المعنية بالوعى المصرى، وفى نفس الوقت تتفاعل هذه الوزارات مع مؤسسات المجتمع المدنى المعنية بالثقافة أيضا، وبهذا الشكل يكون عندنا منظومة ثقافية جديدة، وأظن أن هذه المنظومة لو قمنا بها فسنستطيع تغيير المنظومة الثقافية فى سنوات قليلة.
■ وما الذى منعك أن تنفذه وأنت فى الوزارة؟
- أنا نفذت هذا التصور بالفعل، وعملت ١٢ اتفاقية مع وزارات أخرى منها الأوقاف والشباب والبيئة، وعملنا مع الشئون الاجتماعية لأننا اكتشفنا أن بها ٦٠٠٠ جمعية ثقافية، فكان لابد من التعاون معها، المنظومة شٌكلت والاتفاقيات تمت ووقعت عليها وأرسلتها إلى مكتب الرئيس فى اليوم الذى تغيرت فيه الوزارة، لكى أخلى ضميرى من هذا الذى تعهدت بأن أفعله أمام الرئيس.
■ كنت وزيرا للثقافة مرتين الأولى استقلت بعد أيام، والثانية خرجت فى ظروف ملتبسة، فى رأيك هل هناك شروط لا بد أن تتوفر فى وزير ثقافة بلد بحجم مصر؟
- وزير ثقافة مصر يجب أن يعرف أنه يجلس على كرسى ثروت عكاشة، عبد الناصر كان مثقفا كبيرا، فجاء بمثقف كبير جدا اسمه ثروت عكاشة، وبمجرد توليه الثقافة فى آخر الخمسينيات عقد اجتماعا فى الأوبرا لمدة ٣، أيام، حضره أهم مثقفى مصر فى ذلك الوقت وتركهم يعملون ليل نهار لينتجوا استراتيجية ثقافية لمصر الجديدة، هذه الاستراتيجية كانت تجيب على سؤال: إلى أين نحن ذاهبون وبماذا سنهتم؟ ولحسن الحظ هذه الاستراتيجية موجودة فى مذكرات ثروت عكاشة فى الجزء الثانى، لكن للأسف لم يفكر أحد فى أن يراجعها أو يكررها أو يغيرها.
■ جاءتك الفرصة وأنت وزير فلماذا لم تهتم بها، وتعيد تطبيقها مرة أخرى؟
- أنا شخصيا عندما دخلت وزارة الثقافة كان فى ذهنى منذ البداية حتى وأنا أمين المجلس الأعلى للثقافة أن هذه الاستراتيجية مهمة جدا ومفيدة جدا، فهى قائمة على التدرج الاجتماعى، ففى الأعلى الأوبرا وفى الأسفل قصور الثقافة، حيث تعلّم الفلاحين والعمال، وفيها الاهتمام بما يسمى بالجامعة العمالية، ومدارس الفن ومعاهد الفن العظيمة وأكاديمية الفنون، كما أنها تراعى التباين الاجتماعى والثقافى والفرق بين الحضر والريف إلى آخره، وهى لا تزال إلى الآن أعظم استراتيجية فى مصر، وما حدث فقط ظهور متغيرات تكنولوجية جديدة، وهى الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى، ولابد من إدخالها لتكون لدينا استراتيجية ثقافية جديدة.
■ كمسئول ثقافى عبرت بين عصرين، مبارك وما بعده، ما وجهة نظرك فيهما، وما التغيير الجوهرى الذى حدث فى عقول المصريين وتفكيرهم؟
- أعتقد أنه بعد ٢٥ يناير ارتفعت درجة الأمية الثقافية حتى عند الشباب وعند طلبة الجامعات، أنت ممكن تسأل دلوقتى خريج جامعة، ماذا قرأ لنجيب محفوظ؟ سيرد: من هو نجيب محفوظ أصلا؟... كذلك أصبحت عندك قطاعات كثيرة لا تأخذ الثقافة على محمل الجد بجانب انحدار مستويات القراءة إلى أبعد حد، نتيجة لأننا نعيش فى عصر الصورة، أنا جيلى كان للكتاب، الآن المصريون يعيشون عصر الصورة عبر التليفزيون والكمبيوتر، الآن القراءة اختفت، وفى نفس الوقت وبسبب الظروف السياسية التحولات التى حدثت أصبح المصريون أكثر رجعية وانغلاقا، فصور طلبة جامعة القاهرة فى الخمسينيات مختلفة عن الآن، فى الخمسينيات كان فيه شياكة وحضور وفرح ورغبة فى الإقدام على المستقبل، لكن الآن ومنذ سنوات طويلة هناك نوع من الخوف الغريزى الفطرى والإحساس بأن المرأة عورة لا بد أن تغطى من كل جانب، وهذا يصاحبه حجاب للعقل وليس حجابا للوجه فقط، يمكن أن أقول أيضا إن الأخلاق تغيرت أيضا، ويمكننى أن أقول لك بأمانة الباحث المتأمل فى أحوال مصر فيما بعد ٢٥ يناير، إن هذه الثورة وللأسف الشديد ودون أن تقصد فتحت البلاعات ففاضت بما فيها.
■ أعرف أن لديك رأيا محددا فى ثورة ٢٥ يناير... وتعبيرك أنها فتحت البلاعات يمكن أن يجعلنا نقترب منها بعض الشيء، كيف تراها فى ظل حالة الجدل حولها، وهل هى مؤامرة أم ثورة... ماذا تقول أنت؟
- أنا رأيى بالتأكيد أنها ثورة وأنا كنت وزيرا، ودافعت عن الشباب الثائرين فى مجلس الوزراء، وأرى أنهم أبطال، وأن دماءهم الذكية التى أريقت فى ميدان التحرير هى التى حررت مصر وهى التى قادت بعد ذلك إلى ٣٠ يونيو، فلولا ٢٥ يناير لما كانت ٣٠ يونيو.
■ هذا عن الإيجابى... فماذا عن السلبى فيها؟
- قلت لك إنها فتحت البلاعات، فأخرجت كل المادة المتقيحة، هذه المادة المتقيحة التى خرجت كان لا بد للثوار أن ينظموا أنفسهم، لكنهم تركوا الحكاية كلها، هم قالوا نريد إسقاط النظام وأسقط النظام، فماذا فعلت بعد ذلك، للأسف تركت الثورة بتدخلات عجيبة لم تتكشف كلها حتى الآن إلى أن أصبحت الثورة ومصر فريستين سهلتين للإخوان المسلمين، ورأينا القرضاوى يخطب فى ميدان التحرير، كأنه خمينى يعود إلى بلده بعد ثورة قادها من الخارج، وتمت السيطرة على هذه الثورة وسرقها الإخوان المسلمين.
■ على سيرة الثورة سألته مباشرة: هل كان مبارك يستحق ما حدث له؟
- قال: على وجه التحديد لا أعرف، أنا عندى نوع من التعاطف مع هذا الرجل لأنى كنت أعرفه وهو عالجنى مرتين، فعندى قدر من التعاطف الإنسانى معه، لكن لا شك أن ما ارتكبه فى حق مصر أكبر بكثير جدا من أن يوصف بأنه جرائم، لأنه فى الـ٣٠ سنة التى تولى فيها الحكم، حدث تجريف وتدهور كبير ومستمر فى كل شىء بمصر، فى عصره لم تكن هناك وزارة من الوزارات ولا مؤسسة من المؤسسات إلا وانهارت وانحدرت إلى أقصى درجة، حتى التعليم مستوياته فى مصر فى حالة بائسة.
■ ولكى لا يصل السيسى إلى ما وصل إليه مبارك، ما الذى يجب أن يفعله؟
- الرئيس الحالى لا أظنه سيصل إلى مصير مشابه، لأن انطباعى عنه أنه رجل وطنى حقيقى بكل معنى الكلمة، ومثله الأعلى هو جمال عبد الناصر، وأنا أعتقد أن هذه أشياء ستحميه هو نفسه من نفسه ومن المحيطين به، ولا أظن أنه سيصل إلى هذا المستوى، بالعكس أنا أرى بوضوح شديد أنه هو الحل الوحيد الممكن الآن، لكن عليه أن يكون أكثر إنصاتا للمثقفين.
■ انتقلنا بجابر عصفور من مساحة الحوار التى تتجاور فيها السياسة والثقافة إلى الشأن الثقافى الخالص، سألناه عن المشهد الروائى فى مصر الآن، كان هو صاحب صيحة زمن الرواية... كيف وصل بها الحال الآن؟
- قال: ما تراه الآن لم يعد مشهدا روائيا واحدا، فهناك أنواع ليس لها أول ولا آخر، فالرواية وصلت لدرجة مربكة هى الأخرى، أنا شخصيا لا أستطيع أن ألاحق هذا الطوفان الذى يصدر فى مصر من روايات، أنا أقرأ وليس لى عمل غير القراءة والتدريس بالجامعة، ولكن كنت أستطيع أن أتابع من ٢٠ سنة الذى يصدر وأسمع عن شاب جيد وألاحقه، لكن الآن حقيقى أنا لا أستطيع أن ألاحق ما يصدر.
■ من خلال ما تستطيع ملاحقته... ما تقييمك لما يحدث؟
- تقييمى أن هناك روايات ممتازة جدا تصدر كل عام، وأن الرواية فى مصر مزدهرة، وأنها لا تزال تتصدر المشهد الأدبى، وحدث تغير بسيط عندما حدثت ٢٥ يناير ازدهر جدا شعر العامية المصري، فهو شعر الثورة فى مجتمع الأمية فيه منتشرة جدا، وكان طبيعى أن يزدهر ويقاوم فى عصر الإخوان المسلمين من خلال القصائد، سواء لعبد الرحمن الأبنودى أو سيد حجاب أو غيرهما، لكن مع هذا الازدهار احتفظت الرواية بما لها من مكانة.
■ قلنا له: لدينا ما يشبه الظواهر الروائية المرتبطة بأشخاص بعينهم، نريد منك تقييما محددا لهم؟
- سألنا: مثل من؟
■ قلنا: لنبدأ بيوسف زيدان... كيف تراه؟
- يوسف كروائى لم يصل إلى مستوى يوسف إدريس أو بهاء طاهر، هو عنده بعض الروايات الممتازة جدا، لكن بعض الروايات الأخرى متوسطة القيمة إلى أبعد حد.
■ علاء الأسوانى؟
- علاء من وجهة نظرى كاتب جماهيرى وليس كاتب رواية رفيع القدر، هذا رأيى فيه بصراحة، وهو يعرفه، وهو ما يجعله غاضبا منى، لكن هذه هى الأحكام النقدية، ولا مجاملة فيها على الإطلاق.
■ أحمد مراد؟
- مراد استطاع أن يدخل ما يسمى بالـ«Best seller» من أوسع أبوابه، وعمل روايات سر نجاحه فيها أنه ستطاع أن يدخل بها إلى عوالم الشباب، هذا الشباب الجديد ليس هو الشباب الذى كان يقرأ ليوسف إدريس أو نجيب محفوظ، ليس لديه وقت، وقد يكون مراد تميز بلغة بصرية لكونه مصورا فى الأساس، وهى ما جذبت الشباب إليه.
■ مكاوى سعيد؟
- مكاوى واحد من أهم الروائيين الآن، و«أن تحبك جيهان» روايته الأخيرة عمل من أبدع الأعمال التى ظهرت العام الماضى.
■ وبالنسبة للروائيات المصريات الآن؟
- الحقيقة أن الروائيات اللبنانيات متفوقات جدا عليهن، لكن هذا لا يمنع أن لدينا كاتبات مميزات جدا.
■ ما رأيك فى تجربة «أحلام مستغانمى» التى يتم التعامل معها على أنها الروائية العربية الأشهر؟
- أحلام كاتبه من كتاب الـ«Best seller»، ولا أضعها فى مقام رضوى عاشور ولا حتى فى مقام هدى بركات.
■ لماذا لا يوجد لدينا حاليا فى مصر كاتب أو كاتبة بثراء الكتاب السابقين، أو حتى الكتاب العرب الحاليين؟
- عندنا كتاب بهذا الثراء ويزيد أحيانا، ولكن لا يوجد لدينا كتاب بهذه الجرأة على مستويات متعددة، منها الجنس والدين، عندك مثلا «وصايا العشق الأربعون» للروائية التركية إليف شافاق، وأنت تقرأ تعرف أن الكاتبة درست التصوف فى أعمق أعماقه، ولم تكتب إلا بعد أن قرأت كثيرا، فنحن لم نصل إلى ما يسمى بالغوص عميقا فى التجارب الروحية أو التجارب الحسية.
■ يبدو أن لعبة الأسماء استهوتنا فى الحوار، فبقينا معها، سألته عن تقييمه لوزير الثقافة الحالى حلمى النمنم؟
- حلمى محاولة لإعادة الميزان إلى ما كان عليه، فالميزان نزل جدا مع عبدالواحد النبوى، والحكومة الآن تحاول رفعه بحلمى النمنم، فهو أولا مثقف، ثانيا له كتب معروفة فى السوق، ثالثا له موقفه الفكرى المعلن منذ زمن ضد الجماعات المتطرفة، وكان ضد الجماعات التى تجر الناس إلى المحكمة، وكلامه معروف جدا وحواراته مع مشايخ الحسبة معروفة جدا، وهو إنسان محترم، وأنا متفائل بوجوده فى هذا الموقف لكن التحديات كبيرة.
■ فى رأيك ما المهمة الأساسية التى من المفترض أن يقوم بها؟
- كل ما أرجوه منه شخصيا أن يقوم بتفعيل المنظومة الثقافية، وأعتقد أن العقبة لن تكون منه، لكنها ستكون من الحكومة، فالحكومة لا تتعامل مع الثقافة بالجدية المطلوبة ولا الحقيقية.
■ ما الذى تأخذه على الحكومة ويغضبك بهذا الشكل؟
- هى حكومة تقليدية حتى فى الاقتصاد وفى التنمية، فمثلا مدارس التنمية الحديثة تقول لا بد من تنمية المواطن ماديا ومعنويا، المادية عن طريق الاقتصاد، والمعنوية عن طريق تنمية العقل، لكن لدينا حكومة تقليدية تفهم الاقتصاد بالمعنى التقليدى وليس بالمعنى الحديث، وهذه عظمة عبد الناصر الحقيقية، ففى الوقت الذى كان يبنى مصنعا كان يبنى إلى جواره قصر ثقافة.
■ وأنت أستاذ جامعة يمتد عملك بها لسنوات طويلة... لماذا انحدرت الجامعة إلى هذه الدرجة؟
- الجامعة وصلت إلى انحدار كبير مع عصر السادات، وقتها سُلمت أبواب الجامعة للجماعات الإسلامية، وأنا أتذكر جيدا أنه كان فى بدايات السبعينيات تكونت ما يسمى بالجماعة الإسلامية فى كليات الجامعة، وكانت هناك إمارة إسلامية فى كلية الطب، وأذكر أنى رأيت عبد المنعم أبو الفتوح ومجموعة معه جاءوا إلى كلية الآداب حتى يغلقوا مسرحية، فعندك من السبعينيات إلى عهد مبارك كان هناك تدهور للجامعة، لأنه حتى مبارك لم يقم بمقاومة تلك الجماعات، وأنا شخصيا كتبت كثيرا لعمل استراتيجية للتنوير ولم يستجب أحد، كان هناك نوع من المهادنة لهؤلاء فكانت النتيجة تخريب الجامعة، نافقت الناس على حساب الإضرار بالمعايير العلمية، فكانت النتيجة أن الجامعات خربت الآن، لدينا ارتباك وعدم وجود عقل كلى مستنير يأخذ مواقف حاسمة.
وحتى لا يكون الكلام فى المطلق، يدلل عصفور على ما يقوله بمثال واضح: عندك مثلا الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، منع السيدات من أعضاء هيئة التدريس من ارتداء النقاب، وترافع الرجل أمام القضاء، قدموا طعنا فى الحكم أمام القضاء الذى قضى بصحة القرار، وعندما يأتى إليك القرار وأنت وزير تعليم عالى فماذا تفعل؟ المفروض أن تنفذه على مستوى الجامعات المصرية، ولكننا حتى الآن نسمع أن ما يحدث فى جامعة القاهرة ليس ملزما فى باقى الجامعات، والسؤال: هل أنت مع الاستنارة والتقدم أم مع التخلف؟
■ بعد خروجك من الوزارة ما الذى تفعله الآن؟
- لحسن الحظ بعد ما تركت الوزارة أصبح وقتى ملكى، فالنتيجة أن لى ٣ كتب جديدة فى المعرض هى «الثقافة والحرية» و« تحرير العقل» عن الهيئة العامة للكتاب، وكتاب «المقاومة بالكتابة».
■ ومتى ستكتب مذكراتك؟
- أنا كتبت مذكراتى حتى سنة ١٩٧٠ بعنوان «زمن جميل مضى» ثم توقفت، وما بعد ٧٠ سيصدر جزء قريب عن سفرى إلى أوروبا وأمريكا، وسيكون على ٣ أجزاء، جزء عن حياتى خارج مصر فى أوروبا وأمريكا، وجزء عن الذى رأيته خصوصا أن المصادفات والظروف وضعتانى فى أماكن أتيح لى أن أعرف منها أشياء كثيرة.
■ وأخيرا يا دكتور... من خلال تجربتك فى السياسة والثقافة، ماذا ربحت وماذا خسرت؟
- لم أخسر شيئا على الإطلاق، قد أكون تعبت صحيا أحيانا، لكن هذا ثمن بسيط من أجل بلدنا ولكنى تعلمت واستفدت.