ونعود إلى «كتاب الناقد» الصادر عن دار الريس
(بيروت - لندن) ليجابهنا محمد شحرور كعادته بسؤال مباغت.. هل الطاعة لمحمد الإنسان
أم لمحمد الرسول؟ والإجابة عندي جاهزة لهما معًا إذ يستحيل التناقض. ويبدأ شحرور
بتعريف للسُنة متفق عليه من الجميع «السُنة هي كل ما صدر عن النبي (ص) غير القرآن
من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح لأن يكون دليلًا لحكم شرعي».
وفجأة يفاجئنا شحرور كعادته فيقول «لقد تم تعريف
السُنة من قبل الناس، وليس من قبل الله سبحانه وتعالي، وكل تعريف ورد عن الناس
قابل للتجاوز وإعادة النظر فيه على مر العصور. فالله بعث محمدًا رسولًا بالحق إلى
الناس كافة، وليس إلى العرب وحدهم، وإلى أن تقوم الساعة، ففي القرآن «قل يا أيها
الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذى له ملك السموات والأرض» (الأعراف ١٥٨)..
وهنا يقول شحرور «التطبيق الإنساني كان في حيزه جزيرة العرب، وكان العرب يتألفون
من قبائل وعشائر بكل ما فيهم من علاقات اجتماعية واقتصادية ومعرفية، وبكل ما
يتضمنه القرن السابع من مستوى معرفي».
ثم يصل بنا شحرور «بهذا نضع أيدينا على السُنة في
مفهومها الصحيح المتطور الصالح لمتغيرات العصور. وتصبح السُنة منهاجًا في تطبيق
أحكام الكتاب آخذين في الاعتبار أنه في عالم الحقيقة الموضوعي يغدو ما فعله وما
قاله الرسول هو الاحتمال الأول في تطبيق كتاب الله، وهو الثمرة الأولى وليس
الوحيدة، وهو أول تطبيق لكتاب الله وليس الأخير» (ص٥٨)، ثم يدلل شحرور أو يحاول
على رؤيته قائلًا «وبهذا نتفهم لماذا لم يحدد النبى أسلوب الحكم ونمطه ولو فعل
لناقض حركة التاريخ، وأيضًا لماذا أمر الرسول بعدم تدوين الحديث؟ لأنه يؤكد أن
الأساس هو القرآن، وأن ما فعله هو أو قرره كان تبعًا للظرف التاريخي». ثم يقول:
«لقد تجرأ علماء الحديث على النبي فتوجيهه بعدم تدوين أقواله وأفعاله الشخصية
توجيها صادقا. ولم يسجل أحد وإنما اكتفوا بالرواية ولو كان ثمة تسجيل لقالوا لنا
إن الحديث منقول عن صحيفة كذا، ونحن نعلم أن تدوين الحديث بدأ في القرن الثاني
وانتهى في الثالث، وأن أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه هو عمر بن عبدالعزيز. لكن
الناس وضعوا الصحابة ورواة الحديث في منزلة فوق البشر. ناسين أن الآيات التي وردت في
طاعة الرسول تكون لطاعته لمقامه كرسول يُبلغ لرسالة، لكنه إنسان يلبس ويأكل ويشرب
ويغضب ويرضى، وقد اعتبرنا كل ذلك سُنة. إن طاعة الرسول فيما بلغه لنا من طاعة
الله، لكن الله حي لا يموت.
فطاعة الرسول تكون في العبادات وهى ثابتة لا تتطور
ولا تتغير. والقرآن لم يعطنا تفاصيل الصلاة والزكاة، وأمر أن نأخذها عن الرسول.
لكن الفقهاء أسقطوا الطاعة في العبادات على تصرفات
الحياة العادية للرسول، وهى علاقات تتبع مستوى التطور التاريخي للعرب آنذاك».
ثم يدخلنا محمد شحرور إلى حجج من نوع «عدم التفريق
بين الطاعة المتصلة و(أطيعوا الله والرسول)، والطاعة المنفصلة مثل (وأطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) (النساء ٥٩) ويحذرنا قائلًا، ربما كان الفقهاء
الذين يسعون إلى (الطاعة المتصلة) كواجب ديني حتمي يسعون لفرض طاعة أولى الأمر
لتكون كطاعتنا للرسول ثم طاعتنا له تعالي».
ويقول شحرور بضرورة «أن نفهم لماذا لم يسمح الرسول
بتدوين قراراته في التشريع لأنها تمت ضمن ظروف محددة لمجتمع محدد في زمن محدد ولا
تحمل صفة الأبدية. فمن الأمثلة التشريعية في رسالة موسى قوله تعالى (وكتبنا عليهم
فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن
والجروح قصاص)» (المائدة ٤٥)، ونلاحظ أن الآية «كتبنا عليهم» وليس «كتبنا عليكم»
وهذه الأحكام التي لا يمكن تطبيقها في زماننا هي مجرد مثال لشريعة بنى إسرائيل التي
طبقت منذ ثلاثة آلاف سُنة. وهنا يظهر معنى أن السلطة التشريعية تشرع ما تشاء حسب
حاجات المجتمع وأعرافه بشرط ألا تُحرّم حلالًا أو تُحل حرامًا.
ولكن شحرور يرينا كيف أن السلطة التشريعية غابت
فترسخ الاستبداد السياسي وتم إلغاء الشورى فتم دمج طاعة الله مع طاعة الرسول مع
طاعة أولى الأمر، وصار الخروج على ولاة الأمر أو حتى معارضتهم خروجًا عن طاعة الله
وأسمى القائمون به بغاة كمبرر لإعدامهم.
واستخدم تعبير «أجمع جمهور العلماء» كأساس لقواعد
تسمح بالطغيان والظلم والجور حتى صار الحكم الوراثي والاستيلاء على الحكم بالقوة
من أساسيات ما أسموه بالتشريع الإسلامي. ويضرب مثلا بحديث ورد في صحيح مسلم عن
حذيفة بن اليمان أن النبي قال «يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهدايتي ولا يستنون بسنتي
وسيقوم فيهم رجال قلوبهم كقلوب الشياطين في جسم إنسان. قال قلت: كيف أصنع يا رسول
الله إن أدركت ذلك؟ قال تسمع وتطيع الأمر وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فأسمع وأطع».
ويقول شحرور «هذا الحديث حديث آحاد وهو يبرر الظلم والطغيان».
ويستخرج شحرور من كل ذلك أن نظام الدولة وشكل الحكم من مهام الناس وأحاديث الطعام والشراب والعلاقة بالزوجات غير ملزمة أما الأحاديث الاخبارية فما وافق العلم والعقل نأخذ به وما لا يوافقهما يتم تركه.