هناك اتفاق بين الساسة والعلماء الاجتماعيين فى جميع الدول الديمقراطية المعاصرة على أن ممارسة النقد الاجتماعى المسئول ضرورة أساسية، لأنه بناء على مضمونه فى نقد السياسات الحكومية والممارسات الاجتماعية والثقافية يمكن للمجتمع أن يتطور وينجح فى تحقيق الأهداف المرجوة للنهضة الحضارية القادرة على استيعاب التغيرات العالمية.
وهناك تعريف محدد متفق عليه للنقد الاجتماعى المسئول، وهو أنه عبارة عن الكشف عن السلبيات وأوجه القصور فى الممارسات الحكومية والاجتماعية والثقافية وإعطائها التكييف الصحيح، وتقديم البدائل المدروسة للسياسات والممارسات موضع النقد.
ويقتضى ذلك أن يقوم من يمارس النقد لأى سياسة وفى أى مجال بالدراسة الدقيقة للمشكلات ورسم صورة موضوعية لمختلف أبعادها، باستخدام المؤشرات الكمية والكيفية وإعطاء الوصف الصحيح للسلبيات وتقديم الحلول البديلة.
غير أنه فى كثير من الحالات – كما شهدنا خصوصا بعد ثورة ٢٥ يناير– تصاعدت صيحات النقد الاجتماعى غير المسئول للعديد من الأوضاع والسياسات، وذلك دون أن يثبت من يمارس النقد أنه ملم فعلاً بأبعاد المشكلات، ولديه تصورات بديلة للسياسات المطبقة. وهكذا يتحول النقد الاجتماعى إلى ممارسات غوغائية ومزايدات سياسية عقيمة.
وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد نعطى مثالاً واقعيًا أثار ضجة سياسية واجتماعية كبرى وهو قانون الخدمة المدنية.
هذا القانون الذى أعدته وزارة التخطيط، وصدر فعلاً، كان الغرض منه الإصلاح الجذرى للجهاز الإدارى المترهل فى مصر الذى يعمل فى مختلف وظائفه حوالى ٧ ملايين موظف، ومع ذلك فالعائد من خدماتهم بالغ الضعف.
والقانون كان الهدف منه إدخال تعديلات جوهرية حول طرق التعيين والترقية ومعايير صرف المكافآت وطرق الثواب والعقاب.
وحين صدر القانون، تصاعدت صيحات فئات محددة من العاملين فى الحكومة اعتراضا عليه ودعوا إلى إلغائه. وقد عرض هذا القانون مع غيره من القوانين على مجلس النواب لإقراره، غير أن غالبية النواب رفضت إقرار القانون، مما تسبب فى أزمة حقيقية بين الحكومة والمجلس.
مما يلفت النظر أن هذا الرفض لم يكن مسببا بعبارة أخرى لم يعرف الرأى العام لماذا رفضت غالبية أعضاء مجلس النواب القانون، وكذلك لم يعلن المجلس حلولا بديلة لما أورده قانون الخدمة المدنية من تعديلات جوهرية.
وأغلب الظن أن النواب الذين اعترضوا على القانون خضعوا فى الواقع لضغوط مئات الموظفين الذين سبق لهم أن اعترضوا عليه، ولكن بغير دراسة موضوعية لأحكامه للأسف الشديد. وهذه صورة من صور النقد الاجتماعى السلبى الذى يضر بالصالح العام، لأنه أساسا لم يقدم البدائل بناء على دراسة موضوعية.
وفى مناقشة لى مع الدكتور «أحمد صقر عاشور»، أستاذ الإدارة الاستراتيجية والموارد السياسية بجامعة الإسكندرية والمدير السابق للمنظمة العربية للتنمية الإدارية العربية، وأحد أقطاب علم الإدارة فى مصر، طلبت منه أن يعد دراسة نقدية موضوعية لقانون الخدمة المدنية، لتنوير الرأى العام عموما وأعضاء مجلس النواب خصوصا عن سلبيات وإيجابيات القانون.
وقد أعد الدكتور «عاشور» دراسة موضوعية بالغة الأهمية، طلبت من الصديق الأستاذ «محمد عبد الهادى علام»، رئيس تحرير الأهرام، نشرها كاملة فى الجريدة، ونشرت بالفعل فى عدد الخميس الصادر فى ٢٨ يناير ٢٠١٦ على صفحة كاملة بعنوان «نحو إصلاح حقيقى للخدمة المدنية». وهذه الدراسة تعد نموذجًا أصيلاً للنقد الاجتماعى المسئول، لأن كاتبها- وهو خبير فى الموضوع- استطاع بجدارة الكشف عن سلبيات القانون، وأعطاها التكييف الصحيح، ولكنه لم يكتف بذلك فقدم الحلول البديلة لهذه السلبيات.
وبذلك يكون الدكتور «عاشور» قام بدوره كاملاً فى النقد الاجتماعى المسئول، ويكون الأستاذ «عبد الهادى علام»، رئيس تحرير الأهرام، قام بدوره فى تنوير الرأى العام بنشر هذه الدراسة كاملة.
وقد ناقشنا- فى مجلس خبراء المركز العربى للبحوث- هذا الموضوع البالغ الأهمية، وقدمت اقتراحًا بحثيا بدأنا فيه بالمركز بالفعل لإعداد خريطة متكاملة للمشكلات التى تواجه المجتمع المصرى فى الوقت الراهن، تقوم على أساس تشخيص الوضع الراهن باستخدام المؤشرات الكمية والكيفية، وتقديم السياسات البديلة، بل واقتراح مشروعات القوانين المطلوبة لتعديل الأوضاع السلبية السائدة.
وقد ركزنا على إحدى عشرة مشكلة أساسية هى الوضع الراهن فى مجال الاقتصاد، مع التركيز على مشكلات البطالة والتشغيل، وفى مجال التعليم، والصحة، والإعلام، والثقافة، والممارسة السياسية، وفى مجال السياسة الخارجية، وفى مجال المحليات، وفى مشكلات الطاقة، وكذلك الوضع الراهن فى مجال الشباب، وأخيرا الوضع الراهن فى مجال المشكلات الاجتماعية.
وقد اتخذنا قرارا فى المركز العربى للبحوث بأن يعد الخبراء المتخصصون تقارير علمية متكاملة عن كل مشكلة من هذه المشكلات، على أن تطبع فى كتاب يوزع أساسا على أعضاء مجلس النواب وعلى عموم القراء، لرفع الوعى العلمى بطريقة ممارسة النقد الاجتماعى المسئول، الذى يتمثل فى ثلاث مراحل أساسية، هى التشخيص العلمى الدقيق للموضع الراهن لكل مشكلة، وإعطاء التكييف الصحيح للسلبيات السائدة وأسبابها، واقتراح السياسات البديلة، ومشروعات القوانين المطلوبة.
وفى تقديرنا، أن المركز العربى للبحوث بهذا المشروع الرائد يدفع مراكز البحوث المتخصصة أن تسير فى نفس الطريق، لأن وظيفتها ليست مجرد إنتاج البحوث العلمية الموثقة فى تخصصاتها فقط، وهذه فى ذاتها مسألة بالغة الأهمية، ولكن لا يقل أهمية عن ذلك تنوير الرأى العام بنوع وطبيعة المشكلات التى تواجه المجتمع.
ومن شأن القيام بدور النقد الاجتماعى المسئول قطع الطريق على محاولات النقد الغوغائية السائدة فى دوائر بعض الناشطين السياسيين المعارضين لثورة ٣٠ يونيو التى يهدفون منها إلى الهجوم غير الموضوعى على الممارسات الناجحة فى مجال التنمية، التى بادر الرئيس «السيسى» بالقيام بها، وأولها مشروع قناة السويس وزراعة مليون ونصف المليون فدان، والمفاعل الذرى فى الضبعة، وعشرات غيرها من المشاريع القومية.
وبغض النظر عن مواجهة محاولات النقد الغوغائية التى تريد أن تصيب الجماهير بالإحباط، فإن تنوير الرأى العام بالدراسات النقدية الموضوعية تعد من أولويات الباحثين الملتزمين بقضايا الوطن ومراكز الأبحاث الوطنية التى تسعى إلى دفع عملية التقدم فى البلاد.