لم يعجبنى ما حدث طبعًا، بل إنه ضايقنى وأثار اشمئزازي، عما فعله الفنان الشاب «أحمد مالك» مع عساكر الشرطة أتحدث، فقد أراد السخرية وفعل أمرًا مهينًا وخاطئًا اعتذر هو عنه، بغض النظر عن عمره الصغير، لأن هذا الفعل كان من الممكن أن يصدر من أى شخص آخر ضعف عمر «مالك»، العمر هنا ليس مهمًا، وإن كان البعض حتى هو نفسه يعزى ما حدث إلى حداثة سنه، ولكن أنا لى رأى آخر قد يشاركنى فيه البعض.
فما حدث ليس بسبب السن الصغيرة، بل بسبب أشياء أخرى أهم بكثير من مسألة السن، السبب الرئيسى والمباشر فى رأيى، هو ما تعرض له المصريون لسنوات طويلة من إهانات من هذا النوع على يد الشرطة تحديدًا، فقد تعرض الكثير من الشباب إلى هتك العرض داخل أقسام الشرطة، ولعلنا جميعا نذكر «عماد الكبير» فقد كان الضباط يفعلون ذلك فى المواطنين سواء كانوا مذنبين أم لا من باب «كسر العين»، يعتدون جنسيًا على الشخص، ويصورونه أثناء حدوث ذلك، ثم يقومون بتوزيع الصور على أقرانه وداخل منطقته لإهانته، كما أن هذا الأمر كان منتشرًا وبشدة فى التعامل مع النشطاء السياسيين، ولم يقتصر الأمر على الرجال، بل طال النساء والفتيات أيضًا.
كما أنه لا يخفى على أحد أن نظام مبارك، هو من ابتدع «التحرش الجنسي» بالفتيات فى المظاهرات، كما كان يحدث مع أعضاء حركة كفاية فى الوقفات الاحتجاجية ضد مبارك ونظامه وتوريثه، وكان أشهر هذه الوقائع ما حدث فى الوقفة الاحتجاجية أمام نقابة الصحفيين فى عام ٢٠٠٦ تقريبًا، عندما أطلقت الداخلية مخبريها أو ما كان يطلق عليهم «فرق الكاراتيه» بملابس مدنية داخل الوقفة، وتحرشت بالفتيات جنسيًا بشكل جماعى ومزقت ملابسهن وكن يهرولن فى الشوارع بالملابس الداخلية.
وأذكر جيدًا ما حدث مع صحفية شابة تم اختطافها من الوقفة أمام النقابة، من قبل رجال «أمن الدولة» وذهبوا بها إلى قسم «السيدة زينب»، وفى إحدى الغرف المغلقة مزقت ملابسها وتم الاعتداء عليها جنسيًا، كما أنها تعرضت للضرب المبرح على أيدى المخبرين، ثم خرجوا بها فى سيارة وتركوها فى شارع قصر العينى بالملابس الداخلية، وكانت منهارة وتبكى بشدة ليس من الضرب فقط ولكن من الإهانة والإحراج، وهى شبه عارية فى الشارع، وتوسلت للناس حتى يعطوها ملابس تستر نفسها، وبالفعل خلع البعض ملابسه لستر جسدها، كتبت أنا قصتها وقتها، ولكن طلع أشاوس الداخلية وعملاؤهم، وقالوا إنها مختلة عقليًا، وإن ما حدث كان من تأليفها، وأنكروا تمامًا أن يكون ذلك قد حدث، ثم هاجرت بعدها الفتاة إلى بلد آخر، ولم تستطع أن تعيش فى مصر، البلد الذى تعرت فيه، وضربت وشعرت بداخله بالإهانة البالغة، كما أننى اتهمت وقتها أننى استجبت وصدقت خرافات الفتاة، وأننى انحزت لمجنونة، غير أنه وقبل اندلاع ثورة يناير بشهور قليلة، جمعتنى الصدفة مع رئيس مباحث القسم والذى كان موجودا فى هذه الأثناء، ولكنه كان قد انتقل إلى جهة أخرى فى الداخلية حين قابلته صدفة، واعترف لى أن كل كلمة كتبتها كانت صحيحة وأن أمن الدولة أخذ غرفة من القسم واحتجز فيها الفتاة بضع ساعات وحدث ما حدث، وأن رواية الفتاة كانت صحيحة ١٠٠٪، وقد تقدم الضابط باستقالته من الشرطة قبل الثورة بشهر تقريبًا.
لم تكن هذه الحالة الوحيدة، فقد تعرضت ناشطات أخريات ونشطاء لمثل ما حدث مع الصحفية داخل جهاز أمن الدولة والمعتقلات والسجون، وقد استمر الأمر بعد ثورة يناير، وحتى الآن يحدث ذلك، كما أن الداخلية فعلتها ذات مرة على الملأ عندما تم سحل المواطن «حمادة المصري» وتجريده من ملابسه أمام قصر الاتحادية فى عام الإخوان الأسود، على مرأى ومسمع من العالم كله.
أى أن أسلوب الإهانة باستخدام الاعتداء الجنسى أو الادوات التى تشير إلى ذلك، تقوم به الشرطة علانية فى كل وقت وأى زمان ومكان، ولا تخجل أحيانًا فى الإعلان عن ذلك وكثيرا أيضا تنكره، رغم أنه لا يخفى على أحد حدوثه، وفى علم النفس والاجتماع ما يشير أيضًا إلى أن المقهور دائما يتبع من قهره ويشرع فى تقليده، بدليل اللجان الشعبية التى كانت موجودة أثناء «ثورة يناير»، كان بعض الأشخاص فيها يقلدون الضباط وأمناء الشرطة فى أساليبهم المكروهة مع الناس، رغم أن الثورة أصلًا قامت على مثل هذه الأساليب المهينة،
إذن فالسلطة هى الأساس فى أفعال المواطنين، هى من تتبنى الإهانة وعليه فإن الناس أيضا يردون لها الإهانة كلما سنحت الفرصة، والسلطة حاليا تقصى الشباب وتكمم الأفواه، وتقضى على حرية الرأى والتعبير وتشوه المثقفين والمناضلين وأصحاب الفكر، وتفسح الطريق للضالين والمضللين، مما يعطى شعورًا بالعجز وقلة الحيلة والانتهاك العام. كل هذا يجعل ردود الأفعال سيئة ومهينة ويجعل التفكير فى الانتقام عن طريق السخرية يسير على طريق ممهد سلفًا، فإن الكبت يولد الانفجار، فإن السلطة والشرطة بشكل خاص عليها احترام الناس أولًا وأخيرًا حتى يحترمها الشعب.
وإذا كنا نتحدث عن الإهانة التى حدثت للعساكر من الفنان الشاب، وهى طبعا إهانة لا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك، فإن ما حدث جعل البعض أيضًا يستنكر على ضباط الشرطة أو مؤسسة الداخلية غضبهم بشأن ما حدث للعساكر، وقالوا عبر وسائل التواصل الاجتماعى إن الضباط هم أول من يهين العسكرى، ويجعله خادمًا له فى مكتبه ومنزله، والداخلية تهينهم من أول التجنيد وتشحنهم فى قطارات بلا طعام أو شراب أو حتى ملابس تحميهم من البرد والصقيع، وحادثة القطار التى حدثت منذ أعوام قليلة كشفت مأساة الجنود وكارثة التعامل المهين معهم.
عمومًا أنا لا أبرر الخطأ، لأن ما حدث من الممثل كان خطأ واضحًا، ولكنى ضد جلد الممثل وذبحه والقضاء عليه، لأنه يوجد ما دفعه إلى ذلك فهو ليس خطؤه وحده بل خطأ دولة وسلطة ومجتمع بأكمله، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ «أحمد مالك» بحجر.