انشغل المصريون بزعابيب ورعد وبرد طوبة، فيما هم يتحسبون لأمشير وفصوله البايخة.. نعرف نحن من قديم الأزل أن «طوبة» لا تنتهى إلا بعد أن تستلف عشرة أيام أخرى من «أمشير»، هكذا كانت تقول جدتي!! ضحكنا فى البداية على الأرصاد، وظننا أنهم كاذبون- ولو صدقوا- وأن تحذيراتهم من العواصف مجرد تخويف للناس حتى لا يخرجوا فى ٢٥ يناير، ثم فوجئنا بالبرد فعلا، وبالطين فى الشوارع، فاحتمينا بالبطاطين، والنار، وشوربة العدس.
نعم، لم نكن نصدق، لكننا يقينا لا نثق فى الأجهزة- أقصد الأرصاد طبعا- ومن باب عدم الثقة لم يكن هناك أى بشائر طيبة من كتائب الموظفين فى مصر تجاه قانون الخدمة المدنية، حتى وإن كنا نصدق أن الغرض منه إصلاح الجهاز الإدارى للدولة، وهو جهاز عقيم فعلا، وعانى منه المصريون لسنوات، لكن عدم الثقة فى «قانون أشرف العربي».. بالمناسبة لم يكن المصريون على ود أبدًا باسم «التخطيط» ولسنوات طويلة لم يكن اسم الوزير معروفًا، حتى فى تلك الفترة التى جاء فيها الجنزورى وزيرًا لهذه الحقيبة، لكن الأيام الفائتة جعلت من الرجل نجمًا ثم صار هدفًا لسهام الخوف واللعنة والأرق لملايين الموظفين فى مصر.
لا أكتب الآن عن القانون، ولا عن الوزير، ولا عن هيئة الأرصاد، لكننى أشعر بخيط رفيع أسود يربط بين كل ذلك، وبين التماسيح التى غادرت مكامنها فى «باط الترعة»، وخرجت إلى البر تطلب «عيشا ولحمة» وهذا هو مربط الفرس.
يعرف الناس أن جهازهم الإدارى يحتاج إلى إصلاح، لكنهم يعرفون أيضا أن الأسعار نار، وها هى البشائر تلاحقهم بفواتير جديدة عليهم أن يدفعوها، فاتورة بآلاف للدروس الخصوصية التى لا سيطرة للدولة عليها، وفاتورة للمياه قيل إنها ستتضاعف من بداية مارس القادم، وفاتورة للغاز زادت فعلا، وفواتير للكهرباء لا تتوقف عن الزيادة شهريا، وفاتورة للمترو الذى زادت تسعيرته، كل هذا يحدث فى الوقت الذى يسعى فيه وزير التخطيط ورجاله، ورجال المالية أيضا، إلى تقليم أظافر المرتبات والحوافز ونظام الترقى، وبالمرة المعاشات عند الخروج فى نهاية الخدمة، الوقت ده تحديدا وقت مواجهة أمراض آخر العمر، وجميعها مزمنة، وتحتاج لعلاج دائم لا يكفيه أى معاش.. فى الوقت الذى ارتفعت فيه أدوية السيولة -يحتاجها مرضى القلب- وأدوية «اليوريك أسيد»، يحتاجها كل أهل مصر من «أكلة الفول المدمس والعدس»، وكل أدوية الغلابة بنسبة تزيد على ٤٠٠ فى المائة.. هذه المخاوف هى التى حرضت الناس على كراهية قانون الخدمة المدنية حتى وإن كان الغرض منه الإصلاح فعلا، وأنا أصدق ذلك، والجديد فى الأمر أن أهل الإعلام فى الصحف القومية والفضائيات وفى ماسبيرو أيضا يفكرون الآن بنفس الطريقة، فهم لا يرون فى القانون الذى أعده الوزير أشرف العربى أى إصلاح، أو تطوير، أو هيكلة للإعلام، بقدر ما ينظرون لنفس المواد التى تتعلق بالرواتب والحوافز وطرق الترقي، ولا صحة على الإطلاق، وأنا واحد من أهل ماسبيرو، لمن يظن أننا نخشى على حرية الإعلام، فجميعنا يعرف أن هذه الحرية لا تحكمها قوانين.. ولا صحة إطلاقا لكلام الخبثاء الذين يروجون أن الحكومة لا تقصد شيئا بقوانين الخدمة والإعلام والتظاهر سوى «قمع» أى صوت يفكر فى أن يتكرر ما حدث من إضرابات قبل ٢٥ يناير، سواء فى المحلة، أو عند مجلس الشعب -إضراب عمال الضرائب العقارية- الموظفون والإعلاميون لا يتخوفون يا سادة إلا من «المعاش»، نعم، ومعنى الكلمة بالبلدي أكل العيش.. فهم يعيشون بمرتبات تكفى بالكاد رغم كل تلك الدعوات المريضة عن مرتبات ضخمة يحصل عليها الإعلاميون أو أهل ماسبيرو.
مازاد من بلل الطين، أن كل من تحدثوا من مسئولين أو وزراء عن تلك القوانين ومشروعاتها، لم يشيروا من قريب أو بعيد إلى تصور حقيقى لإعادة ماسبيرو إلى سابق مجده، لم يتحدث أحد عن ذلك الكنز الذى يرقد فى سراديب المبنى العتيق بكورنيش النيل، ولا تلك الكنوز الموجودة فى دار الهلال أو دار المعارف، لا يتحدثون عن المعرفة والفكر والقوى الناعمة إلا ساعة الكوارث، وقت الأزمات والفتن، ساعتها فقط يتذكرون أهل الفكر والثقافة والإعلام الناعم والخشن.
نعم نحن لا نصدق الأرصاد، ولا نشعر براحة تجاه ما يخطط له أشرف العربي.. وله ولرجاله أقولها بصدق، الناس لا تخشى الخروج إلى المعاش، لكنها تعرف أنكم لا تجدون أموالا لسداد معاشاتهم، يعنى بالبلدى شايفين إنكم عايزين تخلصوا منهم من غير ما تدفعولهم فلوسهم وشقى عمرهم،
وما سيواجهون به أيامهم الصعبة فى ظل أسعار لا تتوقف عن الصعود.
المعركة القادمة فى قانون الإعلام، ستكون صعبة، لأن المخاوف أكبر، والهواجس أعظم، وزعابيب أمشير تصيب العيون بالعمي، والحكومة سوابقها لا تسر، صارحوا الناس بما تريدون فربما يتركون «سلطانيات العدس» جانبا ويساعدونكم فى صنع قوانين غير ممطرة، ولا علاقة لها بتماسيح وزير البيئة الجائعة!