أنا عدو القوالب، وخصم المُسلمّات.. والمُتشكك فى حقائق التاريخ.. تستفزنى مُقدسات ما مضى وتُرهبنى تابوهات الزعامات، وتُحزننى قراءتنا اللا عقلانية لكثيٍر من الأحداث.
فى ظنى أن نخّل التطرُف وطرد التعصُب من أدمغتنا يستلزم تحريرًا أكبر للتاريخ، وما نظُنه ثوابت لا تقبل الجدل.
ما زلت أستمرئ الثقافة الشعبوية الساذجة التى حوّلت مُجرمين أبطالاً، وصنعت من مهاويس وقتلة رموزاً وشُهداء.. كَتبت من قبل عن سُليمان خاطر مُنددا بالاحتفال به رغم أن ما فعله لم يكُن سوى جُرم مُشين، وأتصور أن ثقافتنا الجمعية تمتلئ بكثير من الأمثلة المُشابهة فى تاريخنا الحديث.
خذوا مثلا الشقى «أدهم الشرقاوى» الذى حوله الإعلام الناصرى إلى رمز وطنى بدعوى أنه يسرق الأغنياء ويوزع المسروقات على الفقراء.. أو تذكروا البلطجى «ياسين» الذى غنينا له الأوبريت الشهير «يا بهية وخبرينى على اللى قتل ياسين»، فذلك الرجل لم يكُن سوى قاطع طريق مأفون واضطر اللواء صالح حرب شقيق طلعت حرب إلى قتله بالصحراء الغربية لإراحة الناس من شروره.
راجعوا أيضا ما فعله حسين توفيق.. الذى كتب عنه الأديب الراحل إحسان عبدالقدوس رواية «فى بيتنا رجل» لتكتشفوا كيف جعل الأدب من قاتل مهووس بالدماء، والتخوين بطلا عظيما تعشقه النساء أينما حل! إنّ ما لم تذكره الذاكرة الشعبية أن ذلك البطل المزعوم هرب إلى سوريا وحاول اغتيال أديب الشيشكلى وقبض عليه.. ثم حُكم عليه بالإعدام.. وأفُرج عنه بعد ذلك.. ثُم عاد مصر فأنشأ تنظيمًا جديدًا لقلب نظام الحكم واغتيال عبدالناصر.
ولا أدرى ما الذى دعا واضعى مناهج التاريخ المدرسى لأن يُعظموا إرهابيًا مُستأجرًا مثل سُليمان الحلبى ويعتبرونه رمزًا للمقاومة.. لقد صُدمت عندما أُتيح لى أن اقرأ «عجائب الآثار» للجبرتى.. وأعرف أن ذلك البطل ما هو إلا «موتور من سفلة السفلة، يُكرى ليقتل»، وأنه قبض ثمن قتله لسارى عسكر من حاكم عكا.
ثُم تعالوا نُعيد النظر فى بطولات القائد الكرُدى صلاح الدين الأيوبى الذى ذبح فى ليلة واحدة عشرين ألفا من الشيعة وأحرقهم.. ثُم شنق شاعرًا جميلًا يقول فيه ما لا يعجبه.. وهو الشاعر عمارة اليمنى وعلّق جثمانه على أبواب القاهرة.. بل إنه أحرق مكتبة الحكمة وبها مليونا كتاب لأنها كتب الفاطميين.. إن هذا الرجل الذى أظهره يوسف شاهين فى فيلمه الدعائى إنسانًا يُطبب أعداءه، قتل المفكر والكاتب «السهروردى» الذى جمع من العلوم ما لا يُحصى لسبب وحيد هو أنه ما حاجج أحدًا بالعقل إلا غلبه.
أتصور أننا منحنا القداسة والحصانة لبشر خطأ واعتبرناهم رموزًا وأبطالًا بينما نسينا أبطالًا حقيقيين من العلماء والمفكرين مثل «الفارابى، وابن رشد، وابن الهيثم، وابن سينا، والتوحيدى، والمعرى» فلم نُقدم فيلمًا واحدًا عن أى منهم، ولم نُعلّم أبناءنا ما فعلوا و قدموا.
من هُنا يمكن معرفة لماذا انتهى بنا الحال إلى عالم عربى مريض يُصدّر العُنف، ويحتفى بالقتلة ويُنتج إرهاباً وكراهية.
والله أعلم