يكذب على نفسه وعلى الناس من يقول لنا إنه كانت هناك ثورة ٢٥ يناير واحدة، إنها ثورة الفرقاء الذين لا يجمع بينهم شىء لا فى الأرض ولا فى السماء، ولأنها كذلك فإننى أقول من أرضية الباحث والراصد لما جرى: لدينا أكثر من ثورة تحمل الاسم نفسه، لكنها متباينة الملامح ومتناقضة الأهداف ومختلفة النتائج، وعليه فالجدل حولها سيظل قائمًا، هل كانت ثورة أم مؤامرة؟ هل كانت عملًا وطنيًا أم خيانة؟ هل من سقطوا فيها شهداء تنتظرهم الجنة أم أوغاد باعوا وطنهم ومصائرهم إلى النار؟... كل يتحدث عنها من وجهة نظره وبدافع مصالحه وانحيازاته، وكل طرف يتمسك برأيه لا يريد أن يغادره أبدًا، ولذلك لا تنتظروا كلمة فصل فيها لا الآن ولا غدًا ولا بعد غد.
يمكنك أن تعترض طريقى وتقول إن التوصيف النهائى لثورة ٢٥ يناير لم يأتِ وقته بعد، فى زالت هناك أوراق لم يكشف عنها بعد، وأسرار مخبأة فى الصدور، ووثائق يحتفظ بها أصحابها، وتسجيلات وفيديوهات محبوسة فى أدراج أصحابها، وشهادات مراوغة لم يفصح عنها من تورطوا فى الحدث الكبير دفاعًا وهجومًا، وحتى من تحدثوا فعلوا ذلك بشكل منقوص، لا يضيف إلى الحدث إلا ضبابية وغيومًا تشوهه وتجعل منه مسخًا كاملًا.
هذه هى الحقيقة التى أمسك بها الآن، رغم أنه لا حقيقة مطلقة، إلا أن ثورة يناير وبسبب ما جرى فيها وبها ليست إلا مسخًا مشوهًا، لا يمكن لأحد أن يعرف حقيقة ما ألم به وأوصله إلى هذه الحالة المزرية، وأعتقد أننا لن نعرف بسهولة، بسبب حالة التنازع والتطاحن القائمة بين من يتعبدون لوجه الوطن بالدفاع عن ثورة يناير، وهؤلاء الذين يتعبدون لوجه الوطن نفسه بالهجوم على ثورة يناير والحط من شأنها.
الصراع هنا حاكم، لن يستطيع أحد أن يحسم الأمر لصالحه، القوة وحدها من ستقدر على ذلك، لكن الأزمة التى تواجهها يناير، أن القوة تتعامل معها باستغلال مريب، فعندما صعد الإخوان إلى الحكم تعاملوا مع الثورة على أنها صنيعتهم وحدهم، هم من خططوا لها ونفذوها وحموها، وكان مثيرًا للقرف والغثيان أن يهتف محمد مرسى قبل بعض خطبه هتاف الثورة الشهير: ثوار أحرار هنكمل المشوار، فقد أراد أن يجعل من نفسه الثائر الأول، وكان هناك من يستعد لضبط جلباب الثورة عليه، وعندما تم كسح الإخوان، وأصبح عبدالفتاح السيسى رئيسًا للبلاد، وأصبحت القوة معه، لم يقل قولًا فصلًا عن يناير، لا تستطيع أن تمسك عليه من بين ما يقوله أداءً لها، بل على العكس تماما يمتدحها ويثنى عليها، لكن فى الوقت نفسه تجرى ممارسات على الأرض يتأكد من يتابعها أنها تصفية مباشرة لكل ما يرتبط بيناير بصلة، إنها حالة العصا عندما تكون فى المنتصف تماما، وعليه فـ٢٥ يناير تتعرض الآن لحالة من التمييع المقصود، وأعتقد أن هناك من يفعل ذلك ببراعة.
فى المسافة الفاصلة بين أطراف الصراع ستضيع الحقيقة حتمًا، وستدخل الأجيال القادمة فى متاهة كبيرة، لن يعرفوا فيها من هم أهل الحق، ولا من هم أصحاب الإفك، وهى سمة فى تاريخنا الحديث، فلا يوجد قول فصل فى ثورة يوليو ولا تجربة عبدالناصر ولا أداء السادات، ويمكن أن أعدد لك مئات الأمثلة على أحداث مشوهة فى تاريخنا لا نملك فيها قولا فصلا واحدًا، وعليه فلا بد من وقفة.
يقولون إن التاريخ تكتبه السلطة، وحتما تفعل ذلك على هواها، وبما يحقق مصالحها، وتمحو تمامًا دور وتأثير خصومها، وهو أمر استسلمنا له كما استسلم له كثير من المؤرخين والباحثين، لكننى أعتقد أن هذه الصيغة ستتبدد فيما يتعلق بثورة ٢٥ يناير، لسبب بسيط أن السلطة لم تعد وحدها تملك القلم لتكتب، هناك أقلام كثيرة، ولا تحتكر الميكروفون وحدها، هناك ميكروفونات كثيرة، نسمع من خلالها ما يناقض رواية السلطة وأصحاب المصالح.. ورغم أن هذا يزيد الحيرة ويوسع المتاهة، إلا أنه سيظل مفيدًا تحديدًا لمن سيتصدى لكتابة وتوثيق ثورة ٢٥ يناير، فكل الآراء موجودة، وكل الروايات حاضرة، وكل الأحداث معروضة، وليس على الباحث أو المؤرخ إلا أن يعمل طبقًا لمناهجه العلمية وأدواته البحثية ليصل إلى حقيقة ما جرى.
إننا بالفعل نحتاج إلى معرفة ما حدث بعيدًا عن تربص السلطة وتلون الثوار ونفاق الصحفيين وفلسفات المثقفين وإحباطات وانطباعات رجل الشارع العادى، نحتاج لمعرفة ما حدث، وأعتقد أن لدينا مؤرخين مستقلين لديهم أدواتهم التى تمكنهم من فعل ذلك.. وأرجو منهم ألا يتأخروا علينا، فالتاريخ لن يرحمهم ولا الأجيال القادمة أيضًا.