يوم بكى فيه الرئيس، وأبكى كل المصريين يوم احتفالية عيد الشرطة وتكريم أهالى الشهداء «عينى عليكى يا بلد بيموت الراجل الشهم وبيروح الحُرْ.. فيكى الندل والخاين هو اللى باقى ومستقِرْ.. صحيح ما يفضل على المداود إلا شر البقرْ»، مجرد سؤال وفضول أود أن أعرف مَن الذى استطاع فيكم أن يتمالك أعصابه، ويكتم دموعًا تتسابق كى تخرج من عينيه؟ مَن الذى لم يعتصر الألم قلبه وهو يرى الأطفال الرُضَّع اليتامى الذين حملهم الرئيس؟ مَن الذى لم يشاهد الرضيع النائم والرئيس يحتضنه والطفل مستغرق فى النوم؟ لم يستيقظ أو يشعر بيد غريبة عنه تحمله، لم يستيقظ على أصوات مَن بالقاعة، فقد شعر بالأمان والحب الصادق، أحاسيس يدركها الأطفال بفطرتهم البيضاء النقية «الطفل يشعر بالحنية والحب»، مَن الذى تمالك أعصابه عندما طلب الطفل ابن الشهيد من الرئيس أن يقول كلمة للحضور، وهو يتسلم وسام والده فيصاحبه الرئيس إلى مكان الميكروفون، ويقف ليستمع له وهو يقول: «التكريم دا مش ليا أنا دا ليكم كلكم أنا مش هسيب حق بابا أنا هجيب حقى وحق بابا»، ومن منا لم يرقص قلبه فرحا وعيناه اغرورقتا بالدموع وهو يشاهد الطفل ابن الشهيد الذى ارتدى الزى العسكرى مثل والده، وكان رمزا للفخر والقوة والأمل فى الغد، وهو يلقى على مسامع الجميع كلمات دغدغت مشاعرنا رابط الجأش معتدًا بنفسه وكأنه رجل قوي يحارب العدو ويوجِّه له كلماته النارية كالسهام القاتلة؟ ومَن منا قلبه لم ينخلع من الألم على البنوتة الصغيرة التى احتضنها الرئيس بعدما قالت له «أنا بحبك قوى أنت أول حضن يطبطب عليا بعد ما مات بابا»، وعندما قالت أرملة أحد الشهداء التى تمثل تجسيدًا للمرأة المصرية القوية الصلبة التى أنقذت مصر فى أحلك وأصعب الظروف التى مرت علينا وعندما تطلبها مصر، تكون هى فى المقدمة ودائمًا تحت الطلب «الكلام صعب جدًا، لكن عايزة أقول لقتلة زوجى إنتم فاكرين أنكم هتقدروا علينا وأنكم اخدتوا رجالتنا وهنسكت بس متعرفوش أننا هنقضى عليكم وناكلكم بأسنانا علشان خاطر ولادنا»، ومَن لم تنهمر دموعه والرئيس ينزل من على المنصة ليسلم والد أحد الشهداء وسام التكريم بسبب ظروفه الصحية وهو رجل مسن؟ ومن منا لم ينهر من البكاء والألم والحزن ممزوجًا بالدهشة من قوة والد الشهداء الثلاثة من الجيش والشرطة، وهو يحكى ويتكلم عن مصيبة الفقد بمنتهى القوة والثبات ويقول إن مصر عنده أغلى من الدنيا وما عليها، وفى تلك اللحظة اختلطت المشاعر عند الرئيس، وتصارعت بين مشاعر الأبوة ومشاعر القيادة والمسئولية، ولكن مشاعر الأبوة كانت الغالبة لم يستطع أن يقاومها، فقد كانت جياشة عنيفة وصادقة، فالكل بكى، كل من كان فى القاعة ومن شاهد وتابع الحدث اعتصر الألم قلوبنا جميعا، ولم نستطع أن نتحكم فى دموعنا، قالها الرئيس بمنتهى القوة وهو يغالب دموعه من أجل أطفال الشهداء وأسرهم «أقسم بالله ما هنسيبكم، ولن نسمح أن تذهب دماء الشهداء هدرًا، إننا لن ننساهم أبدًا، ولن نتخلى عنكم أبدًا، ولن نترك ثأركم أبدًا، فهم معنا أحياء عند ربهم يرزقون».
أجل الكل بكى بكاء شديدا، وحزن حزنا أشد، ولكنه للفقد فقط ولكن كل ذلك لن يكسرنا أبدا ولن يهزمنا، فالمصرى وطنى مخلص عاشق لمصر بالفطرة والأبطال لن ينتهوا إلا بانتهاء الزمن والحياة على الأرض، قد يظن الخونة واهمين أن غدرهم وخستهم سوف يقضى على الأبطال، وينتهى الأمر ولكن مصر ولاَّدة، لا بد أن يعلموا أن الجيل الجديد بأكمله شاهد على إجرامهم وحقارتهم ولن يتركهم، أتذكر ابنة أخى ذات الأربع سنوات قبل ثورة ٣٠ يونيو بنحو شهر تقريبًا، اعتدت دوما أن أداعبها وأتحدث معها عن القطط، وكل ما فى ذهنى أنها طفلة لا تعلم شيئًا، استيعابها وإدراكها ينحصر فى اللعب والحيوانات، وذات يوم كنت أتكلم معها وكان هذا الحوار:
- أنتى مخرجتيش ليه تتفسحى والنهاردة أجازة؟
- عشان المجرمين عاملين مظاهرة.
فكانت أول صدمة لى فسألتها:
- مجرمين إيه؟
- المجرمين اللى بيموِّتوا فى الناس وفى الظباط.
-إزاى ؟ إنتى عارفاهم يا منَّة؟
- آه أنا شفتهم بيضربوا عمو الظابط وبيحرقوا عربيته، وبيضربوا الناس فى الشارع والدم نازل من وشهم، أنا بكرهّم وبقعد أعيط وعايزة أكبر وأبقى ظابط وأقبض عليهم وأموتهم.
- طيب وهما عاملين مظاهرة ليه يا منَّة؟
- عشان مرسى يقعد بس هو هيمشى لأنه مجرم زيهم، ومينفعش يحكم مصر وهو عمل غلط كتير.
سادت لحظة صمت وأنا فى ذهول أحاول أن أستوعب حديثها وكلماتها التى كانت كطلقات الرصاص أصابت جميع الأهداف، وقتئذ تيقنت أن ثورة ٣٠ يونيو سوف تنجح، وأن مرسى راحل لا محالة، وأن مصر بخير وستظل إلى أبد الآبدين بخير بشبابها وأطفالها ونسائها ورجالها وشيوخها.
الكل بكى وحَزن لمهابة اللحظة وقوتها الإنسانية وأجل أبكتنا دموع الرئيس وكانت سببًا أكبر لشدة بكائنا، لأننا شعرنا أن هناك من يحنو علينا بحق ويحتوى آلامنا، ويشعر بأوجاعنا وجراحنا الغائرة وأحزاننا وكأن يده تربت على أكتافنا، وتشد من أزرنا ونحن فى أشد الحاجة لإحساس قد حُرِمنا منه وصدق أن قال يومًا إن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه، كانت دموعه دموع الأب الذى ينظر لأطفال أبرياء فقدوا آباءهم، وهم لا يزالون فى نعومة أظفارهم، وأب فقد أولاده الثلاثة، إنها دموع الفارس النبيل الذى لم يفقد إنسانيته، وهو يتعامل مع أشرس الأعداء فقد قال نبى الرحمة ـ صلى الله عليه وسلم «لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقى ومن لا يّرحم لا يرحم»، وحقًا وصدقًا ويقينًا سيادة الرئيس كل يوم تَثْبِت لنا بالأفعال وليس بالأقوال أنك رئيس لكل المصريين عاشق لمصر ومتفانٍ ومخلص، جئت منقذًا، حاميًا، مدافعًا عنا وعن البلاد ولا نجد سوى الحب والاحترام والتقدير الذى يزداد لك يومًا بعد يوم، فمن يحمى مصر ويصونها ويحفظها نضعه تاجًا فوق رؤوسنا جميعًا.
لذلك نقول لك، إنت لما بتضحك بتضحكنا كلنا، ولما بتبكى بتبكينا كلنا..بنحبك كلنا، ودموعك غالية علينا يا ريس.