الجمعة 20 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بوابة العرب

تأثير حضارة البصرة على بلاد الأندلس

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعد البصرة المدينة الإسلامية الأولى التي تأسست خارج الجزيرة العربية، مدينة العلم والعلماء، الحاضرة الشامخة القامة مصر الأمصار الإسلامية والمنهل الذي ينهل منه العلم والفكر والأدب وهي أحد أركان وركائز مركز الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي بما اجتمع فيها من جهابذة العلم والمعرفة نابغين في شتى حقول العلم والمعرفة وهي المجمع العلمي الزاهر بما احتوت من العلماء والفلاسفة والأطباء والأدباء بمختلف مشاربهم وأعراقهم.. فهي مدينة الأصمعي وأبو عمر بن العلاء والخليل بن أحمد وأبو عبيدة معمر بن مثنى التميمي وأبو الأسود الدؤلي وأبو زيد سعيد بن آوس الأنصاري وسيبويه وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وأبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الكندي وأبي على محمد بن الحسن بن الهيثم وأبو محمد القاسم بن على بن محمد بن عثمان الحرير وابن سيرين وأبو عمر علاء العطوي وأبو داود السجستاني وهي مهد إخوان الصفا وخلان الوفا والأخفش الوسط وعبدالله بن المقفع وبشار بن البرد وأبو الحسن على بن محمد البصري الماوردي وأبو الحسن الأشعري والمفجع البصري وقتادة بن دعامة والقائمة تطول وتحتاج مجلدات للحديث عن علماء البصرة.
ومن بين تلك البلدان التي أثرت فيها الحضارة البصرية كانت الأندلس (وهو اللفظ الذي أطلقه العرب على القسم الذي سيطروا عليه من شبه جزيرة أيبريه " إسبانيا والبرتغال" وتسمى أيضا "أيبيريا الإسلامية ") حيث كانت البصرة محط أنظار واهتمام كبير من علماء وفقهاء الأندلس لما تملك من مقومات ومدارس الفكر والعلوم والآداب فقد مد العرب المسلمين(والبصرة جزء هام منه) الأندلس بمد حضاري حمل عبارة تتصدر معاهدهم ودور علمهم: (العالم يقوم على أربعة أركان: معرفة الحكيم، وعدالة العظيم، وصلاة التقي،وبسالة الشجاع) فقد أثرت الحضارة البصرية تأثيرات مباشرة على حضارة الأندلس الإسلامية خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين حيث توافد الطلبة والعلماء وطالبي العلم الأندلسيين على أماكن العلم البصرية والأخذ مما موجود فيها من علوم ومعارف على يد أشهر العلماء البصريين وتحفل كتب الطبقات والتراجم بأسماء العديد من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى البصرة طلباَ للعلم ورغبة في الاتصال بعلمائها وقد أسهمت الحضارة البصرية في رفد الحركة الثقافية في الأندلس ودعمها وتشجيعها وتزويدها بالعلوم والمؤلفات وحثها على الترجمة والتأليف.
بدأت علوم ومعارف وآداب البصرة تحمل إلى الغرب عن طريق رحلات طلب العلم التي كان يقوم بها عدد من الأندلسيين إلى مراكز الاتقاد العلمي والأدبي في البصرة والقيام بترجمة هذا العلوم والمعارف إلى العديد من اللغات الغربية وعندما استقلت الشخصية الأندلسية من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي عن الشخصية المشرقية أصبحت المصدر الأول لتوجيه الفكر الغربي لذلك أن اثر البصرة لم يكن محصورا في الحضارة الأندلسية فحسب إنما تعدتها إلى مجمل العالم الغربي.
وسوف نستعرض بشكل موجز بعض من أشهر علماء وفقهاء الأندلس الذين وردوا إلى البصرة من أجل الاستزادة والتعلم ونقل العلوم إلى الأندلس فقد ذكر الدكتور أكرم حسين غضبان العديد من أولئك العلماء الأندلسيين الذين قدموا إلى البصرة وقد ذكر منهم: الفقيه الأندلسي أحمد بن عباد بن عبدون (عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) قادماَ من قرطبة في العام (317هجرية/929ميلادية) وعندما وصل إليها التقى بعدد من علماء الفقه فيها واخذ عنهم أصول الفقه ومصادره وقد درس أراء الفقهاء وتعرف على أساليبهم في حل المسائل الفقهية ثم عاد إلى الأندلس وهو يحمل علماَ غزيراَ في الفقه وأصوله،وكذلك قام الفقيه الأندلسي ابوعبدالله محمد بن وازع الضرير (ت 374هجرية/984ميلادية) برحلة إلى مدينة البصرة في العام (351هجرية/962ميلادية) حيث درس على يد أشهر الفقهاء البصريين واطلع على اهمم كتبهم المؤلفة في الفقه ودرس الفقه على يد أشهر الفقهاء فيها وأبرزهم الفقيه أبي اسحق إبراهيم بن على مما زاد في علمه ومعرفته وقد نبغ في حل المسائل الفقهية مما أفاد فقهاء الأندلس لنقله علوم فقهاء البصرة وفي علم الحديث كان علماء الأندلس قد تلقوا أفضل علومهم على يد أشهر محدثي الحديث النبوي الشريف في البصرة وتعرفوا على أبرز رواته ورواياته وتعلموا كيفية إخراج سند تلك الروايات للوصول إلى صحة الأحاديث من خلال إخضاع الرواة إلى علم الجرح والتعديل( ) لبيان صدقهم فيما رووه عن النبي(ص)،وقام الفقيه الأندلسي أبو عبدالله محمد بن قاسم بن سيار(ت327هجرية/938ميلادية )برحلة إلى بلاد الشرق جعل البصرة محط أقامته الرئيسية حيث أقام فيها أربع سنوات وأربع أشهر التقى خلالها عدد من محدثي هذه المدينة منهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي وأبو زكريا بن يحيى الساجي ومحمد بن موسى الجرثمي اطلع من خلالهم على الحديث النبوي الشريف وتعرف على رواته وعندما عاد إلى الأندلس كان متقناَ لرواية الحديث عارفاَ لسلسلة سنده حتى وصفه المحدث الأندلسي أبو محمد الباجي بقوله): لم أدرك من الشيوخ بقرطبة أكثر حديثاَ من محمد بن القاسم) في حين قام عدد من الفقهاء الأندلسيين الآخرين أمثال مسلمه بن سليمان(ت 353هجرية/964ميلادية) بزيارة البصرة ودرس على يد فقهاء ورواة الحديث البصريين أمثال أبو رواق الهزاني وأبو على اللؤلؤي ومحمد بن على الزعفراني وأحمد بن محمد التستري وكذلك من محدثي الأندلس الذين استفادوا من علوم علماء البصرة أبو زكريا يحيى بن مالك بن كيسان (ت375هجرية/985ميلادية)الذي قام برحلة إلى البصرة سنة(347هجرية/958ميلادية) ومكث في البصرة اثنين وعشرين سنة جمع خلالها علماَ وفيراَ وعاد إلى الأندلس سنة(369/979ميلادية) وقد اتخذ من جامع قرطبة مكانا يحدث الناس فيه ما تعلمه من أحاديث في البصرة وقد وصفه ابن الفرضي- أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي-(ت 403هجرية/1013ميلادي) بقوله (جمع علماَ عظيماَ لم يجمعه أحد قبله من أصحاب الرحل إلى المشرق، روى لنا من الأخبار والحكايات ما لم يكن عند غيره ولا ادخله أحد الأندلس قبله)( ) أما في مجال اللغة والأدب فقد تعلم علماء الأندلس أصول اللغة ومعانيها وحافظوا الكثير من الأشعار وتعرفوا على بحورها وبرعوا في أنشاء القطع النثرية فكانت لهم مساهمه رائعة في هذا المجال حيث كان محمد بن عبدالله الغازي (ت296/908 ميلادية)الذي رحل من قرطبة إلى البصرة فالتقى بعلمائها ومنهم أبو حاتم سهل السجستاني وأبو الفضل العباس الرياشي وأبو إسحاق إبراهيم بن خداش وأبو موسى العتكي وأبو سعيد عبدالله بن شعيب فاخذ عنهم قواعد النحو وأساليب اللغة وحفظ بحور الشعر وقدم على البصرة أيضا أبو بكر يحيى بن مالك (ت 360هجرية/970 ميلادية)من مدينة طرطوشة( ) حيث كان برفقته والده أبو زكريا يحيى بن مالك بن كيسان سنة (347هجرية/958ميلادية) حتى قيل عنه بان حفظه(للنحو واللغة والشعر يفوق من جاراه على حداثة سنه)،أما في مجال العلوم العقلية فقد كان لهذه العلوم نصيب من دراسة طلبة وعلماء الأندلس في البصرة حيث أنهم أتقنوا علومها وأسسها وأصولها وقواعدها وكان من أبرز تلك العلوم الطب الذي يعتبر من أهم العلوم وأعلاها منزلة لما له من دور بارز في حفظ صحة الإنسان وزوال المرض عنه وكانت من أبرز الرحلات العلمية التي قام بها أطباء الأندلس إلى البصرة الرحلة التي قام بها الطبيبان عمر وأحمد ابنا الطبيب يونس الحراني (عاشا في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر (300-350هجرية/912-961 ميلادية) حيث قاما بهذه الرحلة سنة(330هجرية/941ميلادية) وقد اخذوا عن علماء وأطباء البصرة أصول الطب وقواعده خصوصاَ في مجال طب العيون حيث أنهما درسا الطب العملي في بيمارسان( ) مدينة البصرة شأنهم شأن بقية طلبة الطب وعاد الطبيبان عمر وأحمد إلى بلاد الأندلس سنة (351هجرية/962 ميلادية) حيث استقبلهما الخليفة الحكم المستنصر (350-366 هجرية/961-976ميلادية) بالترحيب والاحترام كعادته في استقبال العلماء الأجلاء والكبار وبدأ الطبيبان بممارسة أعمالهما بمعالجة المرضى من المجتمع الأندلسي متبعين أسلوب وقوا عد ما تعلماه في البصرة حيث كان الطبيب أحمد بن يونس الحراني يداوي العين مداواة ويعالجها علاجاَ دقيقاَ.
وقام الطبيب الأندلسي محمد بن عبدون الجيلي (عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) برحلة إلى البصرة في العام ( هجرية347/958 ميلادية) في أواخر عهد الخليفة الناصر حيث كان يقصد من سفره دراسة علم الطب وتعلم قواعده المهنية فرحل من قرطبة قاصداَ المشرق فدخل البصرة والتقى علمائها وأطبائها المشهورين وتلقى على أيديهم دروس الطب النظرية في حين تلقى الدروس العملية في بيمارسان البصرة فكان يشاهد أساتذة الطب وهم يشخصون الحالات المرضية ويحددون العلاج اللازم للمرضى أمام طلبتهم فتعلم بذلك ابن عبدون الجيلي الكثير من أصول الطب وقواعده العلاجية لذلك عندما عاد إلى الأندلس سنة(360هجرية/970 ميلادية) وبدأ بتدريس طلبة الطب ناقلاَ لهم ما تعلمه في البصرة. وكذلك رحل العلامة الرياضي عمرو بن عبدالرحمن الكرماني القرطبي حيث قصد حران ( ) حيث درس بها الهندسة والطب وقد جلب معه إلى الأندلس رسائل إخوان الصفا ويعتبر إدخال رسائل إخوان الصفا إلى الأندلس من قبل الكرماني خطوة كبيرة في اتقاد ودفع تيارات الدراسات الفلسفية في الأندلس وتوسيع البحث فيها( ).لقد قام الخليفة الحكم المستنصر بإقامة سوق علمي في قرطبة تجلب اليه الكتب من شتى انحاء المشرق الذي كان مهد العلوم والآداب وكانت البصرة إحدى المدن التي قصدها تجار الكتب وجلبوا منها الكثير من المؤلفات حيث كان الخليفة المستنصر يرعى ويهتم بتجار الكتب "باذلاَ للذهب في استجلاب الكتب ويعطي من يتجر فيها ما شاء"( )فقد حمل أبو على القالي إلى الأندلس تراثاَ في الشعر والأدب حيث حمل دواوين الفرزدق الشاعر البصري المعروف وعندما عاد فرج بن سلام من العراق جلب معه كتاب (البيان والتبيين)وغيره من مؤلفات الجاحظ وادخل قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي إلى الأندلس كتاب (العين) للنحوي البصري المشهور الخليل بن أحمد الفراهيدي.
لم تكن الروابط والعلاقات بين الأندلس والبصرة محصورة في الجوانب العلمية والثقافية بل تعدتها إلى الصلات الاجتماعية حيث ارتبطت الأندلس مع البصرة بصلات اجتماعية كبيرة ونلاحظ مثلاَ مدى التأثير الاجتماعي الذي أفرزته البيئة الاجتماعية البصرية على الأندلس من خلال إقامة العلماء والفقهاء والطلبة والتجار الأندلسيين في البصرة لفترات زمنية طويلة قد أدى إلى امتزاجهم بالبيئة الاجتماعية البصرية وقد اخذوا عنها الكثير من العادات والتقاليد نقلوها عند عودتهم إلى بلاد الأندلس لتضيف إلى الحضارة الأندلسية طابعاَ جديداَ من سمات الحضارة البصرية.
لقد اثر التواصل الحضاري بين البصرة وبلاد الأندلس بشكل واضح وملموس على ازدهار وتقدم الأندلس في شتى مجالات وحقول العلوم والآداب والفنون فعندما نتحدث عن التواصل الثقافي عبر التاريخ فأننا لم نجد مثالاَ أروع من الحضارة الإسلامية في الأندلس فقد كانت الجسر العظيم للتواصل بين الثقافة العربية والثقافة الغربية وهي بحق التقاء الحضارات بين الشرق والغرب مما نتج عن هذا التواصل ولادة الحضارة الأندلسية التي ساهم فيها علماء وفقهاء ومحدثي وأدباء البصرة بشكل واضح فقد أدى هذا التواصل إلى النضج العلمي واكتمال بناء الشخصية العلمية الأندلسية والانطلاق بتلك العلوم التي حصلوا عليها من المشرق وتلك التي استنبطوها ذاتياَ نحو البلدان الغربية.
---------------------
1 ) الجرح والتعديل هو مجموعة من الضوابط يتبعها المحدث لمعرفة رجال الحديث وصحة سند الروايات التي رووها عن النبي (ص) راجع العمري،بحوث في تاريخ السنة المشرفة،ط1، بغداد، ص 104.
2 ) راجع صلات البصرة الحضارية مع بلاد الأندلس – الدكتور أكرم حسين غضبان – مجلة دراسات البصرة – السنة الثانية – العدد(1)2007.
3 ) طرطوشة مدينة أندلسية تقع بالقرب من بلنسية مشهورة بخصوبة أرضها واعتدال مناخها انظر،الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق د.أحسان عباس، بيروت،1975، ص192.
4) البيمارسان: كلمة فارسية تعني المحل المعد لمعالجة المرضى وإقامتهم وهو ما يعرف الآن بالمستشفى انظر ابن عمران،المنجد في اللغة، ط1 بيروت 2003(مادة بيم)ص57.
5 ) حران الكبرى وحران الصغرى: قريتان في البحرين لبني عامر بن الحارث بن انمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفضى بن عبد القيس، ياقوت الحموي: معجم البلدان ج2 ص 271-272-273.
6) بحث بعنوان التواصل الثقافي بين الأندلس والمشرق – الدكتورة سهى بعيون – مؤتمر فيلادلفيا الدولي الرابع عشر.
7 ) انظر صلات البصرة الحضارية مع بلاد الأندلس – الدكتور أكرم حسين غضبان – مجلة دراسات البصرة – السنة الثانية – العدد(1)2007.