منذ سنوات ونحن نطلق عليه «معهد وجع القلب».. كانت الشكوى الدائمة من المترددين عليه، وهم بالآلاف يوميا، ومن كل محافظات مصر، أن غرف العمليات لا تكفى عدد الموجوعة قلوبهم.. فيضطر الأطباء كل يوم إلى إضافة أسماء جديدة إلى قوائم الانتظار.
ومنذ ذلك الحين انتشرت سبوبة «تجاوز» القائمة.. فلا بد لك من وسيلة أو واسطة أو معرفة حتى تتمكن أولا من استخراج قرار علاج على نفقة الدولة.. كان الأمر يستغرق شهورا.. وكان المعتاد أن تحصل على القرار عبر أحد نواب مجلس الشعب.. كان اسمه مجلس الشعب.. أو عبر وسيط من أولئك السماسرة الذين كانوا ينتشرون فى شارع قصر العينى -قصر مجلس الشعب سابقا والمجالس الطبية المتخصصة سابقا أيضا- وبعد أن تحصل على القرار كان لا بد لك من واسطة جديدة لتحصل على رقم فى القائمة.. ثم تبحث عن طبيب واصل.. أو واسطة واصلة -تزق اسمك فى القايمة- حتى تحصل على موعد للجراحة.. وكانت الأزمة أن السرير فى غرفة الرعاية له دوره.. كل مريض يجرى جراحة فى قلبه الموجوع له يومان فقط فى السرير.. بعده يحل مريض آخر.. والشاطر اللى يعرف دكتور يعرف متى ستخلو الأسرة المعروف عددها مسبقا.
كان ذلك هو المعتاد.. والمألوف الذى فهمناه وحفظناه وعرف القاصى والدانى كيف يتصرف معه.. ورغم كل سلبيات التأخير والأعداد المتزايدة فى قوائم الانتظار كنا نعرف أنه المكان الأهم والأفضل فى مصر -وربما العالم العربى- الذى يمكنك أن تجرى فيه جراحة لقلبك الموجوع وأنت مطمئن.
كانت أعداد الموجوعين تتزايد.. ومنظر القادمين من البلاد البعيدة حول أسوار المعهد مع أسرهم وذويهم فى انتظار «فرصة أمل بالشفاء» تلفت أنظار كل من دعته الظروف بقصد أو دون قصد إلى حوارى ميت عقبة.. كنا نعرف أن أفضل الكوادر البشرية من أطباء وممرضين موجودة فى ذلك المبنى العتيق، حتى وإن ساءت أحواله بفعل الزحام الشديد.
جاء عشرات الوزراء من الأطباء -جميعهم أطباء- فلم يحدث أن جاء لمقعد وزير الصحة مهندسون مثلا.. وذهبوا وظل المعهد على حاله.. ذهب رجال الرقابة الإدارية يتابعون.. ورجال «المركزى للمحاسبات» يراجعون.. وأحيل البعض إلى المحاكم بعد عمليات مشبوهة لاستيراد دعامات قاتلة.. مضروبة.. وظل هناك رجال يسعون إلى تطويره وإحداث طفرات فيه.. بإنشاء أقسام لم تكن موجودة مثل قسم «كهرومغناطسية القلب»، ورحل عباقرة من رجاله هربا من بطش إدارى غاشم.. ورغم ذلك ظل المعهد أحد الصروح الضخمة فى مجال الطب.. وفى مجال التعليم أيضا.. فالقلوب الموجوعة من أرياف مصر وحوارى مدنها على كل لون.. إشى رجالة وإشى ستات.. شباب وشيوخ.. بحاروة وصعايدة.. ظل الأمر كذلك رغم افتتاح عشرات المعاهد فى محافظات مصر البعيدة.. فى أسوان مثلا أنجز مجدى يعقوب صرحا مهما.. يستقبل المئات يوميا.. وفى سوهاج كذلك تم إنشاء معهد للقلب يستقبل أبناء المحافظات القريبة، أسيوط وقنا، بالإضافة إلى أبناء المدينة الجنوبية الفقيرة.. وأظن وليس كل الظن إثما.. أن ثمة معاهد أخرى تم إنشاؤها فى السنوات العشر الأخيرة بمحافظات الدلتا.. ورغم استيعاب هذه المعاهد عددا كبيرا من المرضى ظل الوافدون إلى إمبابة على حالهم يزيدون ولا ينقصون، وكأن أوجاع القلب لا تريد أن تترك المصريين فى حالهم.. ظل الأمر يحدث يوميا وكأنه شىء عادى.. ناس بساط يتألمون.. وأطباء مجهدون فى عياداتهم وجامعاتهم يتذمرون.. لكنهم يعملون ولمدة ١٢ ساعة يوميا فى غرف الجراحة التى لا تهدأ أبدا.. كل شىء صار اعتاديا حتى الشكوى من طول مدة الانتظار بعد أن منعت وزارة الصحة وجود وسطاء فى عملية استخراج القرار التى أصبحت فى يد الموظفين فقط أصبحت معتادة.. حتى فاجأ المهندس إبراهيم محلب الجميع ومعه كاميرات التليفزيون بزيارة -قيل إنها مفاجئة- لمعهد القلب!
يومها انتفضت القاهرة تصفق للرجل النشيط.. الذى غضب كثيرا من فقط الزبالة فى مفصل واحد من أهم معاهدنا الصحية والعلمية.. وغضب أكثر عندما شاهد قطة صغيرة تلهو فى طرقات غرف المرضى، أو ربما غرف الجراحة، وزمجر الرجل الذى لم يكن يغضب أبدا وتوعد وهدد.. وقال كلاما طيبا لمسئول طيب -رئيس الحكومة وقتها- عن ذلك العبث.. وضرورة إصلاح الأمور.
ونشرت صحف الصباح التالى.. وكل الفضائيات تقريبا أخبار الزيارة.. وبعدها خبر أسعد كل من ذاق المر فى طرقات ذلك المعهد عن «تطوير» سيحدث فورا.
بعدها بأيام ليست بعيدة.. ذهب المهندس محلب مرة أخرى للمعهد.. وناقش مع مسئولين عملية التطوير.. وبدأ العمل فعلا.. ثم مرت شهور ليست بعيدة وذهبت الكاميرات مجددا لتنقل إلى العالم عملية افتتاح المعهد بعد تطويره.. ثم ذهب المهندس محلب ووزارته.. وجاء شريف إسماعيل.. ونسى الناس أمر المعهد.. ومحلب صار مستشارا لرئيس الجمهورية للمشروعات القومية الكبرى.. وظن الجميع أن الأمور أصبحت «بمبى.. بمبى.. بمبى».. هكذا كنت أظن أيضا حتى فاجأتنى بعض متاعب القلب.. مثل كل المصريين.. وذهبت لإجراء بعض الفحوصات -مش فى المعهد- وجاءت السيرة.. لأعرف بالكارثة.. نعم كارثة بكل المقاييس.. فالذى حدث أن العمليات الجراحية وبسبب التطوير الذى لم يحدث سوى فى «البياض»!! توقفت تماما.. تسع غرف للعمليات الجراحية بكاملها توقف العمل فيها.. لأن من قرر التطوير الشكلى لم ينتبه إلى الغرف التى لم تكن تستوعب العمليات أصلا تجرى يوميا ما يزيد على ١٢٠ عملية جراحية متخصصة.. وهى طاقة لا تستوعبها عشرة أماكن أخرى من المعاهد الصغيرة فى الأرياف.. ولا يستطيع معهد ناصر الذى يقوم بإجراء جراحات القلب أيضا إضافة حالة واحدة جديدة.. فهو الآخر يستقبل الآلاف من المرضى يوميا.. وكان أن قام الأطباء بتحويل الحالات الطارئة والعاجلة -ملحوظة كل الحالات التى تذهب إلى معهد القلب كارثة وعاجلة عادة- إلى مستشفيات إمكانياتها ضعيفة ولا تصلح لإجراء هذه الجراحات.. وتم ترحيل حالات أخرى إلى مواعيد قادمة بالشهور.. فى انتظار أن ينتهى العمل فى التجهيزات ربما بعد شهور طويلة قادمة.. يتعرض خلالها آلاف المرضى للموت يوميا.
هل يعلم المهندس محلب بما جرى؟! هل يعلم وزير الصحة؟.. إذا كانا يعلمان ويصمتان فهذه جريمة.. وإذا كانا لا يعلمان فهذه جريمة أكبر.. نعم التطوير مطلوب.. وشغل النقاشة والنظافة مطلوب.. بالمناسبة ما زالت مخلفات المبانى موجودة فى صحن المعهد وأمام أبوابه حتى الآن.. لكن إنقاذ من ضاعت قلوبهم أو كادت تتوقف أمر أكثر إلحاحا.. هل قال لهم أحد إننا نحتاج إلى مكان بديل لإجراء الجراحات حتى يتم تجهيز المبانى من جديد.. لم يقل أحد.. صمت مدير المعهد ومن جاءوا بعده خوفا من محلب وكاميراته فارتكبوا جريمة أكبر.. الآن المعهد يحتاج إلى إنقاذ عاجل.. أو بالأصح مرضاه يحتاجون إلى تدخل رئاسى عاجل.. بنقلهم إلى مستشفى القوات الجوية، وقد علمت أنه مجهز تماما لإجراء جراحات القلب، وتستطيع القوات المسلحة الاستعانة بأطباء المعهد وكامل طاقمه لإنقاذ هؤلاء المرضى الذين تم ترحيلهم إلى قراهم فى انتظار الموت أو انتهاء عمليات التجديد.. وربما هناك مستشفيات أخرى بالقوات المسلحة تستطيع أن تفعل ذلك.. هذا من ناحية والشد على يد من يقوم بالتطوير للإسراع فى العمل.. فقلوب الناس ليست لعبة إلى هذا الحد.. مش كفاية أنها قلوب موجوعة أصلا.