تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أقول دائماً إن الوهم هو أكبر نعمة فى حياة الإنسان، فبدونه لا يمكن أن يعيش- أو يتعايش- مع إحباطاته وانكساراته وخيباته التى لا تنتهى، يعوض فشله بتوهم أنه نجاح، ويتفاعل مع إخفاقاته بأحلام يقظة لا تنتهى، ويسيطر على أوجاعه بتخيلات لوقائع وأحداث لم تقع من الأساس.
أعرف كثيرين يعيشون عمرهم كله فى وهم كامل، يستهلكون وقتهم كله فى انتظار ما لا يجيء أبدًا، لكن الانتظار وحده يكفيهم، يعشمون أنفسهم بالأمل، مع أن أمل نفسها خانتهم ونامت مع كل خلق الله بعيدًا عنهم هم تحديدًا، الصدمة فى حياة هؤلاء تكون خاطفة وعاصفة وقاتلة، وعندما تسأل: لماذا لا يعتبرون بما حدث مع سابقيهم؟ أجيبك بأن الحياة مستمرة بتكرار أخطائنا لا بتعلمنا من سقطات من سبقونا.
يذكرنى هؤلاء بمن يجلسون أمام صفحات الفيسبوك محاولين أن يصنعوا صورة لمصر ليست موجودة على الأرض، إنهم محبطون بما يكفى، لم يتحققوا ولم يحققوا شيئًا، ولذلك فهم يعيشون فى حقيقة اخترعوها وحدهم أن مصر مقدمة على ثورة ثالثة، وأن النظام الحالى باتت أيامه معدودة، وأن الأجهزة الأمنية مرعوبة مما ينتظرها، وأن العالم كله يخطط ليجعل من ٢٥ يناير المقبل يومًا ملحميًا، مذكرين أنفسهم بمشاهد وصور وحكايات وذكريات وشهداء ٢٥ يناير الأولى، وبعد أن رسموا هذه الصورة (ثورة تقوم ونظام يسقط) جلسوا فى انتظار أن يتحقق ما أوهموا أنفسهم به.
لن أقلل من شأن ما يفعله المتسكعون على نواصى الفيسبوك وتويتر، لن أقلل من خطورة ما يذهبون إليه، وما يتعمدون نشره للإيحاء بأن كل شيء حولنا ينهار، لكننى سأتوقف قليلًا أمام ما يفكرون فيه بعد أن تقوم الثورة ويسقط النظام، لا تنتظر إجابة مختلفة، فهؤلاء ليس لديهم شيء يدفعون به، أو بدائل واضحة ومحددة المعالم، إنهم فقط يلعبون لعبة تفكيك الأوطان عبر شبكات التواصل الاجتماعى، وبعد ذلك لا شأن لهم بما سيحدث، لأنهم بالفعل لا يعرفون ولا يقدرون على تحمل مسئولية وطن، حدث هذا بعد ٢٥ يناير وحدث بعد ٣٠ يونيو، وسوف يحدث فى كل مرة جديدة يثور فيها المصريون، دون أن يحددوا على وجه اليقين ماذا يريدون.
إننا لا نزال فى حالة سيولة، وإذا كان هناك من يعتقد أن الأمور استقرت بشكل نهائى، فهذا هو الوهم بعينه، لكن الفارق كبير بين من يريدون تحويل السيولة السياسية والاجتماعية إلى استقرار، ومن يغذون حالة السيولة لتحويلها إلى نمط حياة، كل مرة نعود من جديد لنركب نفس السيارة معتقدين أنها يمكن أن تصل بنا إلى محطة مختلفة، لكنها للأسف تقف بنا عند نفس المحطة دون غيرها، لكننا لا نتعلم.
المفزع لأى عاقل هو حالة التصعيد التى يمارسها الفرقاء، لدينا فى مصر فرقاء بالفعل، لا يمكننا التسليم بأن الجميع على قلب رجل واحد أبدًا، رغم أننا فى أمس الحاجة إلى ذلك، لدينا بالفعل فريقان، الأول يقف على رأس النظام ويدعمه الجيش وتسانده مؤسسات الدولة، وتدعو له فئات من الشعب التى تكره الفوضى وتتمنى الاستقرار، والثانى يضم كل الشاردين برغبتهم أو بتغيير الآخرين، كل فريق يشوه الآخر ويعمل على إقصائه، كل فريق لديه مصر تختلف تماما عن مصر التى على الأرض، وهذه هى المشكلة التى نعانى منها على الأرض، وأعتقد أنها ستحاصرنا حتى الاختناق.
مصر التى على الفيسبوك- وهى بالمناسبة مصنوعة بعناية من الفريقين المتنازعين- مبالغ فيها جدًا، كل فريق يريد أن يصيغها على هواه، ولا يريد أن يستمع إلا لصوته فقط، كل طرف يخدع نفسه، ويعتقد أن لا أحد يراه.
مصر باختصار هى رمضان السكرى فى مسرحية «العيال كبرت»، يتحدث مع عشيقته فى التليفون معتقدا أن لا أحد يراه أو يعرف حقيقة ما يفعله، وعندما يضبطه ابنه يناديها بإسماعيل بيه، فيسخر منه ابنه قائلا، «سلم لى على جوزك يا إسماعيل بيه»، الفرقاء يعتقدون أن لا أحد يراهم، رغم أن لسان حال كل فريق منهم يقول للثانى: «سلم لى على جوزك يا إسماعيل بيه».