فى طفولتى لم يكن فى بيتنا تليفزيون، كان التليفزيون بدعة جديدة عمرها سنوات، وكان من الصعب شراء هذا الجهاز لأسباب مالية، وإذا توفر المال ينبغى أن تقوم بحجزه من شركة «النصر»، التابعة للقطاع العام، والوحيدة فى مصر التى تصنع أجهزة التليفزيون، وهو ما يستغرق شهورًا وربما سنوات فى انتظار الدور، بعد الانفتاح الاقتصادى وموجة السفر للخليج أصبح من السهل الحصول على التليفزيونات المستوردة.
ليلة ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ كان أبى سهرانًا فى العمل، وأمى وإخوتى نائمين وأنا عند الجيران ألعب مع ابنهم القريب من عمرى فى انتظار فيلم السهرة أمام شاشة التليفزيون.
بعد فاصل من القرآن الكريم، بدا توقيته غريبًا ومستغربًا، لأن القرآن كان يبث عادة فى بداية ونهاية الإرسال فقط، أذيع بيان وفاة الرئيس عبدالناصر، وخيم جو كئيب علي المكان لم أستوعبه، مصحوبًا بصرخات قادمة من بعيد مصدرها بعض الشرفات والنوافذ المحيطة، فغادرت عائدًا إلى شقتنا مقبوض القلب خائفًا، وأيقظت أمى مرددًا: اصحى، جمال عبدالناصر مات. لم تستوعب أمى ما أقوله فى البداية، ولكنها استيقظت مع توالى الصرخات القادمة من بعيد، ومنها صرخة بعينها لا أنساها، عالية وحادة وملتاعة، سمعت فيما بعد أن صاحبها طالب متفوق فى كلية الطب يسكن فى المنزل المواجه للبيت الذى نسكن فيه.
أذكر شذرات مبهمة من ذكريات الأيام الحزينة التالية، مختلطة بذكريات لاحقة من صور جنازة عبدالناصر، والشعارات المكتوبة فوق الحوائط والمجلات والصحف المكللة بالسواد، التى تحمل صوره منذ مولده وحتى وفاته، بعض هذه الأعداد الخاصة من المجلات، مثل «المصور» و«الإذاعة والتليفزيون» ظلت فى مكتبة بيتنا لسنوات طويلة.
أذكر أيضًا أن مجلة «سمير»، أو ربما «ميكى»، وزعت هدية مع أحد أعدادها عبارة عن نموذج كارتونى مجسم لمسجد جمال عبدالناصر، كان من أوائل ألعاب طفولتى. لم تمح هذه الفترة الكئيبة إلا مع انتصار السادس من أكتوبر ١٩٧٣ الذى جرى وأنا فى المدرسة الابتدائية، وكانت أول ذكرى سعيدة تتعلق بأكتوبر بالنسبة لى، هى أن المدرسة تم تأجيلها حتى انتهت الحرب.
أحب أن أعتبر نفسى من جيل أكتوبر، بالرغم من أن السنوات الحزينة قبل الانتصار لا بد أنها تركت آثارها على لا وعى الطفل الذى كنته، لكن ذكرياتى فى مدرسة «الشيخ على يوسف» الابتدائية محملة بحكايات وقصائد الانتصار، ومنها ذكريات مسرحية مدرسية وطنية شاركت بالتمثيل فيها، وعرضناها على خشبة مبنى الثقافة الجماهيرية فى حى جاردن سيتى، الذى تحول الآن إلى «قصر ثقافة الطفل». فى هذه المسرحية لعبت دور فدائى صعيدى يقوم بضرب فتاة وطنية اسمها «عطية»، وحملها على كتفه هاربًا بها لإنقاذها من الأعداء، ما زلت أذكر من حوارى فيها جملة: «أجولها يالا يا عطية.. مرضياش.. يالا يا عطية مرضياش.. رحت ضاربها بالدبشك وجايبها على هنا».
وبما أننى كنت ألعب دور صعيدى، فقد لصقوا لى شاربًا صناعيًا فى غرفة الماكياج قبل العرض، ما زلت أذكر لسعة نزعه من فوق شفتى بعد نهاية العرض.. لكننى لا أذكر شيئًا آخر عن ظروف عمل هذه المسرحية، لا فريق المدرسة المسرحى ولا المدرس أو المدرسة التى قامت باختيارنا وتدريبنا ولا بقية الزملاء.. لا شيء.
من ذكرى وفاة عبدالناصر، بقيت علاقتى المضطربة بالتليفزيون، أو لعل عقلى هو الذى يفسر علاقتى غير الجيدة بالتليفزيون بهذه الذكرى السيئة.
فى طفولتى لم يكن فى بيتنا تليفزيون، ولكنه كان ممتلئًا بالمجلات والكتب، وخاصة مجلات الأطفال المصورة، ميكى وسمير، ثم سوبرمان، وباتمان، وتان تان..إلخ، وحتى عندما جاء التليفزيون لم أتعلق به مثل معظم الأطفال، وظللت مخلصًا لعلاقتى الحميمة بالورق.
لم أحب من مواد التليفزيون سوى الأفلام الأجنبية، ثم برامج «نادى السينما» و«أوسكار» و«العالم يغنى»، أما علاقتى بالأفلام المصرية، فلم تتوطد إلا عندما كبرت، وتعرفت على أعمال يوسف شاهين وكمال الشيخ و«مومياء» شادى عبدالسلام، ثم مخرجى الثمانينيات.
خلال سنوات عزوبيتى التى سكنت فيها بمفردى، كانت الشهور تمضى دون أن أقوم بتشغيل جهاز التليفزيون مرة واحدة، لدرجة أننى كنت أنسى أحيانًا، وأقول لمن يسألنى إننى ليس لدىّ تليفزيون.
كثير من المفكرين وعلماء الاجتماع، كتبوا عن التأثيرات السلبية للتليفزيون، من أشهرهم الفرنسى بيير بوردو وكتابه «التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول»، الذى يحلل فيه الكيفية التى يتم بها توجيه الرأى العام وصناعته لخدمة مصالح الطبقة الحاكمة، المتحكمة فى الإعلام، ضد مصالح الطبقات الأضعف، والمفارقة أنها الطبقات الأكثر إدمانًا وتأثرًا بالتليفزيون.
هناك أيضًا بعض الأفلام الكلاسيكية العظيمة التى جسدت مساوئ التليفزيون مثل فيلم «أن تكون هناك»، إخراج هال آشبى «١٩٧٩»، وبطولة الكوميديان بيتر سيلرز، الذى يلعب فيه دور بستانى، لم يغادر المنزل الذى يعمل فيه طوال حياته، وكل علاقته بالعالم تنحصر فى جهاز التليفزيون الصغير فى حجرته.
هناك أيضًا فيلم «الشبكة»، إخراج سيدنى لوميت «١٩٦٧»، الذى شاهدته مجددًا منذ عدة أسابيع، ويتناول تفاصيل ما يفعله هذا الجهاز الخطير سياسيًا واجتماعيًا، بشكل يدعوك للمقارنة بحالة الفضائيات العربية الآن.
وسط الشكاوى التى نسمعها هذه الأيام من الإعلام، وخاصة التليفزيون، لا يسعنى سوى استدعاء هذه الكتب والأفلام، والتذكير بوجودها، بالرغم من يقينى الراسخ بأن كلامى أو كلام غيرى لن يفيد، وأن الدمار الذى أحدثه، ويحدثه، التليفزيون فى العقول والمجتمعات، لا يمكن مواجهته أو التخفيف من أضراره. نحن عبيد التطور التكنولوجى.. ولا شىء يمكن أن يغير هذه الحقيقة المريرة.