منذ مطلع القرن العشرين بدأت مصر تفتح عينيها على عالم جديد ومبهر. وفى وميض هذا الجديد اختلط عنصران متمايزان عن بعضهما البعض، هما التحديث Modernation والتغريب Westerntion وذلك رغم تفاوت عميق بين كل منهما.
ولعل السبب هو الطابع المميز للمكون الاجتماعى المصرى فى ذلك الزمان، حيث تدفق على مصر منذ منتصف القرن ١٩ مئات الآلاف من المهاجرين الأجانب، إيطاليين وأرمن ويونانيين وفرنسيين ونمساويين وغيرهم. أما الوضع الاجتماعى لهؤلاء المهاجرين فقد تراوح بين مصرفيين ومستثمرين ونصابين وحرفيين. ويمكن القول إن مصر فى مطلع القرن العشرين كانت بالنسبة للكثيرين من الأوروبيين مثل دول الخليج بالنسبة للعديد من المصريين فى زماننا الحالي، وأدى ذلك إلى أن هؤلاء الأجانب قد أتوا إلى مصر بعناصر حياتية جديدة تختلف تماما عن السائد فى مصر. أخلاقيات مختلفة وسلع جديدة تماما على الحياة المصرية، وحرفيين غاية فى المهارة، وحتى العمال الأجانب أتوا بأساليب جديدة فى الإنتاج، وبعلاقات عمل جديدة منها النقابات والإضرابات والاعتصامات. ولعل أبرز انعكاس اقتصادى واجتماعى لهذا الواقع هو انقسام السوق المصرية فى القاهرة مثلا. وكان ميدان العتبة هو بداية سوق جديدة تمتد عبر وسط المدينة لتكون سوقا حديثة بواردات أجنبية أو منتجات حديثة، بينما الامتداد المعاكس الموسكى والنحاسين والعقادين بقيت على حالها كسوق للفقراء حتى انقرض ما فيها من حرفيين. وسيطر الأجانب تماما على وسط القاهرة سكنا وتجارة إلى درجة أن طالب الصحفى الشهير محمد التابعى السلطات المصرية بأن تفتح لمصر سفارة فى وسط القاهرة.
وفى ذات الوقت كان العقل المصرى ينفتح على الفكر الجديد، يطالعه ويستوعبه أو بالتعبير الطبى يتمثله، ويفرز فكرا مصريا جديدا سواء فى مجال التجديد الدينى (رفاعة الطهطاوي- الأفغاني- الكواكبي- محمد عبده- على عبد الرازق.. إلخ)، أو فى مجال الثقافة والفكر (شبلى شميل- فرح أنطون- نقولا حداد- ولى الدين يكن- سلامة موسي- أحمد لطفى السيد- طه حسين وعشرات غيرهم).
وهنا ينشأ التمايز الذى اختلطت مكوناته فتلاشت الفروق أمام الأعين غير اليقظة.
فالمدينة المصرية امتلأت بالأحاديث من كل جنس وكل مهنة وكل أشكال الأفاقين أيضا، وانتشرت دور اللهو وباعة الملذات والمراقص والثياب الحديثة وكل معدات الحياة العصرية، وتواكب مع ذلك نشوء فئات ريفية ثرية بسبب زيادة ريع الأرض الزراعية (شبكات الصرف والري- محصول القطن.. إلخ)، وكثيرا ما كان هؤلاء الأثرياء الجدد ينغمسون بلا حساب فى حياة الصخب الحديثة ليبددوا فيها كثيرا من ثرواتهم، وهو ما وصفه لنا بأسلوب أدبى ممتع إبراهيم المويلحى فى كتابه «حديث عيسى بن هشام» الذى أبدى احتجاجا صارخا وساخرا من هؤلاء الذين انغمسوا فى ملذات المدينة، وهى ملذات منسوبة إلى الغرب وإلى الوافدين الغربيين.
وهكذا اعتبر كل ما هو وافد من الغرب، وكل ما له علاقة بالحياة العصرية، خروجا على العادات والتقاليد المرعية، بل اعتبر انحيازا للأعداء. ويصيح أحد الكتاب «تجرأ الرقعاء والخلعاء على ما لم يكونوا يتجرأون على الجهر به من قبل مطمئنين إلى بلادة الرأى العام» (محمد محمد حسين- الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر – جزء ٢- صـ١٨٥). ويقول «وقد تهافت الأغنياء على تقليد الأوروبيين فى عاداتهم وسلوكهم، وأصبح المترفون من الأغنياء يتهافتون على كل ما تخرج المصانع الأوروبية فى عاداتهم وسلوكهم، وأصبح قصارى ما يبلغه أحدهم من التمدن أن يتقن تقليد الأوروبيين فى استعمال أدوات المائدة، أو يحسن استقبال النساء والتودد إليهن والتلطف فى معاملتهن، وأن يدير لسانه بألوان الرطانات، ثم يرسل أبناءه وبناته إلى المعاهد الأجنبية» (ص١٨٧). ويشن المؤلف حملة ضارية على الشيخ عبدالعزيز البشرى لأنه كتب مقالا فى السياسة الأسبوعية (أول يناير١٩٢٧) بعنوان «مضى عام»، ويطالبه فقط بالاحتفاء بالعام الهجرى وحده. ويمضى فى ذات الاتجاه مصطفى لطفى المنفلوطى الذى سجل رأيه فى النهضة الحديثة فى مقال بعنوان «المرقص»، قائلا «رأيت الدنانير ذائبة فى الكؤوس، والعقول جامدة فى الرؤوس، والحبائل منصوبة لاستلاب الجيوب» (النظرات- جزء ٣- ص١٧٦). لكن هذا الشق الذى اعتبر الحداثة مجرد انحياز غير وطنى أو غير أخلاقى أو غير دينى للغرب والتغريب، كان يواجه وبحسم وكثقافة بكتابات أخرى راقية وفاهمة ومتفهمة لمعنى الحداثة والتحدث، ونقرأ لعبدالقادر أفندى حمزة دعوات حارة لتحرير العقل من قيد الجمود والتقليد تقول «إن علينا أن نخرج أنفسنا من العصر الذى نستسلم فيه لماضينا إذا كنا لا نريد أن نظل جهلاء وضعفاء كما هو الحال الآن، وكما كنا سالفا. فالقرآن الكريم لم يأت إلا بقوانين عامة لجميع الناس، وإن لكل أمة حق التصرف انطلاقا من الحكمة المتضمنة فى هذه القوانين، وأن تختار ما يتماشى مع الزمان والمكان دون أن تقيد العقل بأى قيد سوى البقاء فى حدود الإيمان». ثم يوجه عبد القادر حمزة هجومه إلى «الذين حولوا الدين إلى تجارة فلم يعد يهمهم إلا أن تردد أفواههم هذه التجارة صباح مساء، ويتخذوها وسيلة للتغرير، واحتيالا لكسب رضاء العامة وشيوع ذكرهم بينها، غير ملتفتين إلى الخطر العظيم الذى يدفعون إليه الأمة ودينها». ويقول «إن المتشددين هم أجهل الناس بالإسلام، يتاجرون باسمه ويتخذون مطية للتغرير والتضليل» (المقتطف – مارس- ١٩٠٤). وهناك منصور فهمى الذى أوفدته الجامعة الأهلية للدراسة فى باريس فأعد رسالة دكتوراه بعنوان «أسباب تدهور أوضاع المرأة فى المجتمعات العربية والإسلامية» فأثار العنوان موجة سخط عارمة بما دفع الجامعة إلى إرسال برقية له طالبه فيها بتأجيل مناقشة الرسالة، لكنه رفض ونال درجة الدكتوراه وعاد لينال قرار فصل من الجامعة». وقاسم أمين لم يكن يدعو إلى تحرير المرأة فقط وإنما إلى تحرير المجتمع ككل فيقول «يجب أن نلتفت إلى التمدن الإسلامى القديم. نرجع إليه لا لننسخ منه صورة ونحتذى مثال ما كان فيه سواء بسواء، بل لكى نزنه بميزان العقل ونتدبر فى أسباب ارتقاء الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، فنجد أن ما كان عندهم هو خليفة غير مقيد، يحكم موظفين غير مقيدين، وقد يقال إن بضعة أفراد ينوبون عن الشعب يبايعونه لكن سلطة المبايعين سلطة لفظية يتمتعون بها بضع دقائق، ثم يبقى الخليفة مطلق السلطة، والحقيقة أن من أسباب نكبتنا أننا نسند حياتنا على التقاليد التى لم نعد نفهمها، والتى نحافظ عليها فقط لأنها أتت من الماضي». ثم يقول «يجب أن نرفض الحجاب الداخلى عند الرجل قبل أن نقاوم الحجاب الخارجى عند المرأة، فهمزة الوصل بين الحجابين هى عبوديتهما معا لسلطة الدولة». أما الشيخ طنطاوى جوهرى فقد أكد «أن البحث العلمى والعقلى فريضة واجبة، وأن العقل منحة إلهية لابد من استخدامها وأن الأخذ بنظرية داروين لا يتنافى مع تعليم الإسلام، ويتعين على المسلمين تعلم التشريح والتطبيقات والعلوم العصرية، وهذا أسمى مظهر لعبادة الله وهو أشرف عطاء، وأشرف من صلاة زائدة وإحسان إلى مسكين» (راجع للتفاصيل د. رفعت السعيد – الليبرالية المصرية –ص ٢٠٠).
وهكذا.. وبمثل هذا الفهم يتمايز أمامنا موقفان، أو بالدقة طريقان، قد يتقاطعان لكنهما مختلفان.. فالتحديث والتجديد واستنباط أساليب التطوير المجتمعى الحديثة، وإعمال العلم والاعتماد على العلوم الحديثة شيء مختلف تمامًا عن التقليد الأعمى للغرب والغربيين وللأساليب والأخلاقيات المتبعة عندهم.
.. ومع هذا التمايز يمكننا أن نواصل معركتنا من أجل مصر جديدة حقًا، متقدمة حقًا تحمى حقوق كل مواطنيها حقًا.