«إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه»، هذا مثل مصرى لا يوجد له مثيل فى دول العالم، الخبرات التى صاغت هذا المثل تعرف جيدًا مزايا الوظيفة الحكومية، فهى التى تنقل شاغلها من مجتهد إلى كسول، ذلك الكسل مدفوع الأجر ليس وحده المكتسب الوحيد من الوظيفة الميرى، فهناك أيضًا إلى جواره نجد النهب المنظم والتسلط الذى يعمل على تعويض كل أمراض النقص للنفس البشرية المشوهة، ونجد الوجاهة الاجتماعية الوهمية، ونجد الكثير والكثير من المكتسبات الرخيصة التى تُعين صاحبها على المرور من اشتباكات الحياة اليومية بسهولة ويسر.
بلد تجاوز عدد سكانه ٩٠ مليون نسمة يحمل على ظهره بطالة مقنعة فى الدواوين الحكومية أكثر من ٦ ملايين موظف، تطورت أجورهم فى الموازنة العامة للدولة خلال السنوات الماضية من نحو ٩٦.٢ مليار جنيه «٢٠١٠ - ٢٠١١» لترتفع فى العام التالى إلى ١٢٢.٨ مليار جنيه، ثم ١٤٢ مليارًا فى عام ٢٠١٢ ـ ٢٠١٣، ونحو ١٨٢ مليار جنيه فى ٢٠١٣-٢٠١٤، و٢٠٧ مليارات بعدها، هذه أرقام رسمية نرصدها لنرى هل العائد من موظفى الدولة يغطى هذا المبلغ؟ الإجابة المؤكدة هى: لا، لننتقل إلى السؤال الثانى هل يحدث مثل هذا الخلل فى أى دولة بالعالم؟ الإجابة أيضًا: لا، إذن فما الأسباب التى أدت إلى هذه الكارثة المعقدة؟.
ببساطة نستطيع أن نشير بإصبع الاتهام إلى سوء تخطيط القوى العاملة، وإلى الواسطة والمحسوبية وسوء توزيع العمالة، نشير إلى الرشوة فى شراء الوظائف، نشير إلى الدولة المرتعشة، نشير إلى مصير محتوم مؤسف لو لم يتم تدارك هذا الأمر، سيقول أحدهم مزايدًا: هل نلقى بالناس إلى الشارع والوظيفة حق للناس وواجب على الدولة؟، وبطبيعة الحال لن أرد على مثل ذلك الكلام الفاقع للمرارة، ولكن سألجأ إلى إحصائيات عالمية لنعرف مدى الخيبة التى وصلنا إليها، ومن أوراق الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة نقرأ أن الجهاز الإدارى للدولة يعانى من التضخم، حيث تمثل النسبة موظف واحد لكل ١٢ مواطنًا، بينما المعدل العالمى هو موظف واحد لكل ٤٠ مواطنًا، وفى دول أخرى ولكنها متطورة تصل النسبة إلى موظف واحد لكل مائة مواطن، وعلى ذلك نجد أن مصر تعد الدولة «رقم واحد» فى العالم من حيث كثرة عدد الموظفين الذين يقومون بخدمة المواطنين.
وكالعادة عندما تقع الفأس فى الرأس نسأل أنفسنا ما العمل؟ الإجابة بسيطة وهى إعادة هيكلة مجتمع الموظفين الذى ينمو كسرطان ينهش فى جسد المجتمع، وإعادة الهيكلة لا يمكن أن تكون بالفصل أو العقاب، ولكنها تكون بإعادة التأهيل وتوجيه الطاقات الزائدة نحو مواقع وتخصصات تنعكس بالإيجاب على معدلات التنمية فى مصر الجريحة.
وقانون الخدمة المدنية الذى ثار ضده المستثورون وزغرد احتفالًا بالاحتجاج عليه المزايدون، لعله قد يكون بداية ناجحة فى حال تطبيقه دون أضرار جانبية، فليس من المنطقى أن يفرح الثورى باحتجاج فئوى لموظفى الضرائب مثلًا عند ضبط رواتبهم، فيخرج علينا المتضررون من الضبط بقولهم إنهم هم من يدخلون الأموال لخزينة الدولة، وكأنهم فى وظيفتهم صاروا مُلاكًا جالسين على بوابات الخزائن، وما يدخل إليها هو تفضل منهم، نفس الحال لموظفى الحكم المحلى، فكل موظف يقدم خدمة للمواطن يقبض ثمنها من المواطن نقدًا، فصار المهندس مسئول تراخيص البناء هو المالك والمحتكر لهذه الخدمة، وكأنه فى دولة تخصه هو، لقد عانى الشعب المصرى، وذاق المر من التجاوزات الفاسدة التى أنتجتها الدولة الرخوة فى محاسبة موظفيها.
وختامًا، فالإشارة إلى استخدام التكنولوجيا، ستظل هي الأمل الوحيد لوقف تلك المهازل اليومية، فالكمبيوتر وميكنة الدولة، هى عناوين قد تمنحنا الأمل فى غدٍ أفضل، وقد تعطينا مؤشرًا أننا على الطريق الصحيح.